شافي الوسعان


مشكلة الأحزاب الدينية أنها دأبت على إقحام الدين في كل خلاف فكري أو ثقافي أو سياسي، فإذا أحبوا أحداً أحاطوه بهالة من الألقاب التي تؤكد تدينه وتقواه وصدق منهجه
من السهل على أي حزب ديني أن يصل إلى السلطة، لكنه سيفشل غالباً في المحافظة عليها، ثم يوعز أسباب هذا الفشل إلى طرف خارجي يعاديه،

ويحيك المؤامرات ضده لمجرد أنه إسلامي! فأشهر تلك الأحزاب هو جماعة الإخوان المسلمين في مصر، عندما نجحت في الوصول إلى السلطة بعد ثمانين عاماً من المحاولات، لكنها مع ذلك فشلت في المحافظة عليها أكثر من عام واحد، بسبب إدارتها للحكم، وخلق أعداء لها في الداخل والخارج،

وبسبب أن الرئيس كان يعتبر نفسه رئيساً لجماعة لا شعب، مع أن الجماعة وصلت بشق الأنفس؛ وبعد أن استنفذت كافة السبل في الوصول إلى السلطة، بما فيها المشروع وغير المشروع، بل اتخذت كافة الوسائل بما فيها المخالفة لمبادئ الحزب نفسه، فالديمقراطية في نظر الجماعة كانت كفراً مخرجاً من الملة، إلا أن الجماعة قامت بتحليلها فيما بعد حين رأت أن ذلك من مصلحة الحزب، واستبدلت شعار الشريعة المقدس الذي كانت ترفعه في برنامجها الانتخابي بشعار الشرعية غير المقدس والمستمد من الشعب، إلا أن ذلك كله لم يشفع لها بالبقاء، وتم إسقاط حكم الجماعة بعد مظاهرات مليونية طالبت الجيش بإنهاء حكم الإخوان، فمشكلة هذه الجماعات أن لديها شعارات توصلها إلى الحكم، لكن ليس لديها أنظمة للحكم، ولذلك تنكشف وتسقط بسرعة.

الحاكم الذي يصل إلى السلطة عن طريق حزب مدني دون أن يرفع شعاراً لجماعة دينية محددة يكون أكثر نجاحاً من الحاكم الذي يأتي عن طريق جماعة أو حزب ديني، لأن الأول سيكون منحازاً للإسلام العام المُتّفَق عليه بين جميع أفراد الشعب، ومنعتقاً من أي وعود يخص بها فئة قليلة على حساب فئة كثيرة، كما أن تعصبه للوطن سيكون أكبر من أي شيء آخر، على العكس من حاكم الجماعة الذي سيكون متعصباً لفهم الدين الخاص بجماعته والذي قد يتصادم مع بقية الأحزاب الدينية، فضلاً عن صدامه مع الأديان الأخرى،

وسيكون التعصب للجماعة أكبر من التعصب للوطن، على اعتبار أنه رابط ديني وهو أكبر من أي رابط آخر، كما هو معروف في أدبيات أغلب الجماعات الدينية، فالرئيس التركي إردوغان هاجم في آخر لقاء معه الرئيس المصري السيسي، مع أنه ليس من مصلحة وطن يعيش حالة انقلاب أن يجلب له مزيداً من الأعداء، لكنه آثر مصلحة الجماعة على مصلحة الوطن، مع اعترافنا بأن إردوغان أكثر اعتدالاً من رموز الإخوان العرب، ومحاط بأنظمة علمانية تكبح جماح تفرده بالسلطة، ولذلك فالحاكم حين يأتي عبر حزب ديني سيكون مخيراً بين أن يسترضي أكثر الشعب أو فئة قليلة من الشعب، فإن اختار الحزب على الوطن فعملية إسقاطه مسألة وقت لا أكثر.

كثير من الحزبيين لا يفهمون شيئاً من الأحداث حولهم، بسبب أنهم يفسرون الأحداث بطريقة الإيمان والكفر والحق والباطل وحتمية الصراع بينهما، فما إن يُحشَروا في نقاش أو جدل ولم يجدوا حجة يقنعون بها الناس حتى أعادوا ذلك إلى الحرب على الدين، لذا فإن أغلب تحليلاتهم تقوم على افتراض المؤامرة وتقسيم الناس إلى إيمان وكفر، على طريقة مؤسس تنظيم القاعدة حين قسَّم العالم إلى فسطاطين فسطاط إيمان وفسطاط كفر، مع أنهم لو فسروا الأحداث بطريقة المصالح ونسبية القيم لكانت الصورة أكثر جلاءً ووضوحاً في أعينهم، ولكان بإمكانهم التحرك في ضوء اتفاقاتهم ومصالحهم المشتركة مع الآخرين، فكما أنهم يريدون الحصول على مكتسبات بمشاركة الآخرين؛ فكذلك غيرهم يريدون الشيء نفسه، ولا يمكن للأحزاب أو الدول أن تقدم خدمات مجانية لهم،

لكن الحزبيين لا يفهمون ذلك ولا يرون الأشياء من هذا المنظار، إنما يريدون من غيرهم أن ينصاعوا لمطالبهم ويذعنوا لمبادئهم على اعتبار أنهم على حق وغيرهم على باطل! ولذلك وقعوا ضحية الحقيقة المطلقة، فقطعوا صلتهم مع هذا العالم قطعاً حاسماً، ومشكلة الأحزاب الدينية عامة أنها دأبت دوماً على إقحام الدين في كل خلاف فكري أو ثقافي أو سياسي، فإذا أحبوا أحداً أحاطوه بهالة من الأوصاف والألقاب التي تؤكد تدينه وتقواه وصدق منهجه، ثم اختلقوا له القصص والخرافات والأكاذيب، وخلعوا عنه جميع مساوئه؛ بل منحوه محاسن غيره، غافرين له كل أخطائه وزلاته، أو صوروا هذه الأخطاء الظاهرة للناس على أنها تخفي تحتها الكثير من الخير، وما فيه مصلحة الأمة!

فعندما قررت تركيا تطبيع علاقاتها مع إسرائيل قال أحد إخوان الخليج: "إعادة العلاقات مع الكيان الصهيوني كانت أخلاقية، ومن أجل أهلنا في غزة، ومن ينكر ذلك فهو مغرض أو جاهل!" مع أن ذات الأخطاء أو أقل منها لو وقع فيها حاكم آخر لكفروه بالإجماع ولأهدروا دمه كما فعلوا مع الرئيس الراحل السادات، وحين يأتي من يوجه النقد لزعيمهم أو يقول عنه إنه أخطأ، وُصِم بمحاربة أهل الدين والصلاح، وبذلك انقسم المجتمع في نظرهم إلى من هم مع هذا الزعيم ومن هم ضده، وأنه لا يمكن للإنسان أن يكون معه وضده في نفس الوقت، حتى يُخيَّل إليك أنهم يتحدثون عن ملاك لا بشر، أما إن كرهوا أحداً عملوا على شيطنته وأكدوا على فساد منهجه وبطلان عقيدته، ثم خلعوا عنه جميع محاسنه،

ل منحوه مساوئ غيره، إنهم لا يتصورون أحداً من رموزهم يمكن أن يخطئ، كما لا يتصورون أحداً من خارج الحزب يمكن أن يصيب، فمن يقارن بين ما قاله رموز الإخوان عن فتح الله غولن قبل الانقلاب وبعده يدرك أن هذه الجماعة لا تحب ولا تكره في الله، إنما تتخذ الدين سوطاً في جلد الناس، وإذا أراد الإخوان إسقاط أحد طعنوا في عقيدته ودينه، كما فعلوا مع غولن عندما حولوا خلافه مع إردوغان من سياسي إلى ديني، مع أن الأجدر بهم أن يقولوا عن غولن إنه أخطأ في عملية الانقلاب مع الاعتراف بتدينه وفضله، حفظاً لماء الوجه واحتراماً لقدسية الدين، هذا على افتراض أن له دوراً حقيقياً في عملية الانقلاب!.
&