&أمين ساعاتي

سواء انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ظلت في الاتحاد الأوروبي، فإن أعراض تفكك منطقة اليورو بدأت مع الأزمة اليونانية في عام 2008 التي لا تزال تهدد استمرار وبقاء الاتحاد الأوروبي.

وأزمة الاقتصاد اليوناني ليست الأزمة الوحيدة، ولكن جسد الاتحاد الأوروبي يعاني عديدا من الأزمات الاقتصادية الحادة، فهناك أزمة الاقتصاد البرتغالي، ثم أزمة الاقتصاد الإسباني، وأزمة الاقتصاد الإيطالي، حتى بلغت الأزمات أطراف الاقتصاد الفرنسي.

إن اقتصادات هذه الدول الخمس ما زالت تعاني أعراضا تؤرق الاقتصاديين الغربيين، بل إن فرنسا ما زالت تحاول جاهدة تنفيذ حزمة من الإصلاحات حتى تتجنب الوقوع في أزمة اقتصادية كتلك الأزمة التي تعانيها اليونان وإيطاليا وإسبانيا. ولكن ما يؤخذ على الاتحاد بصورة عامة أن النمو الاقتصادي لدول الاتحاد لم يكن في كل الأحوال متساويا أو متقاربا في الاتجاه، بل هناك دول تقدمت اقتصاديا، وهناك دول تأخرت، وكانت النتيجة انقسام أوروبا إلى شمال متقدم تتوافر لديه وفرة في الاحتياطيات النقدية، وجنوب بطيء النمو يتزايد فيه العجز المالي ويعتمد إلى حد بعيد على القروض الداخلية والخارجية في تمويل مشاريعه وتنفيذ برامجه.

إن انخفاض النمو في دول الجنوب الأوروبي بات يلفت الأنظار، بل أضحى يبعث على القلق بشأن مستقبل مجموعة اليورو بخاصة والاتحاد الأوروبي بعامة، ويذكرنا هذا التقسيم الأوروبي بما كان عليه الوضع أثناء الحرب الباردة حينما كانت أوروبا تنقسم إلى أوروبا الغربية المزدهرة، وأوروبا الشرقية المتخلفة.

كذلك من الأشياء المقلقة أوروبيا الاستفادة العرجاء من قيام الاتحاد الأوروبي، أي أن ألمانيا هي المستفيد الأكبر من قيام الاتحاد، وليس صحيحا أن قيام الاتحاد في صالح كل دول الاتحاد، ولذلك تفوقت ألمانيا كقوة اقتصادية كبرى داخل منطقة اليورو بخاصة وداخل الاتحاد الأوروبي بعامة، بينما كثير من دول الاتحاد عبرت عن استيائها من تفوق ألمانيا، ومنها إسبانيا والبرتغال وإيرلندا واليونان .. حتى فرنسا التي تعرضت لأزمة اقتصادية في عام 2014 لحقت باليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا وانتقدت استفادة ألمانيا الكبرى من الاتحاد، بينما فرنسا وكل الدول الأخرى لم تستفد من انضمامها إلى الاتحاد بالقدر الذي كانت تأمل وتطمع وتحلم.

إن الأزمة الاقتصادية في اليونان أرهقت الاتحاد وهو يدفع مليارات اليوروهات لتغطية احتياجات الاقتصاد اليوناني اللاهث والباحث عن الحلول الفعالة، ولكن الاقتصاد اليوناني ما زال يعيش الأزمة ويعاني أعراضها ولم يبلغ مستوى الشفاء التام، بل إن الشارع اليوناني رافض لتنفيذ حزمة الإصلاحات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الحكومة اليونانية.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ترفض الاستمرار في دفع المليارات إلى الخزانة اليونانية من أجل إنقاذ اقتصاد يلهث دون فائدة.

وفي نظر البعض أن الحكومة اليونانية لم تعمل بما يكفي لعلاج الأزمة، بل إن الشعب اليوناني ضد روشتة الإصلاح التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الحكومة اليونانية، وما فتئ الشعب اليوناني يطالب حكومته برفض الروشتة، بل يطالب الحكومة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ويحملون الاتحاد الأوروبي مسؤولية ما جرى من انتكاسات للاقتصاد اليوناني، والشعب اليوناني يقول صراحة إن الاقتصاد اليوناني كان في حالة ازدهار قبيل الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وإنه انتكس بعد انضمام اليونان إلى الاتحاد الأوروبي، ولذلك هناك شريحة كبيرة من الشعب اليوناني تطالب بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

إن قضية تفكك الاتحاد الأوروبي باتت مطروحة عند المفكرين الألمان، لأن ألمانيا هي الدولة التي تتحمل القسط الأكبر من مسؤولية دعم دول الاتحاد وتدفع من خزانتها أموالا هائلة لمعالجة كل الأزمات الاقتصادية التي تعانيها دول الاتحاد الأوروبي.

ولذلك هناك شريحة من المفكرين الاقتصاديين الألمان ينادون بفكرة تفكيك الاتحاد الأوروبي حتى لا تصبح ألمانيا وحدها المسؤولة عن إنقاذ اقتصادات الدول التي تترنح اقتصاديا.

أما بالنسبة لبريطانيا فإن مؤيدي الانسحاب يقولون إن خسائر الانسحاب الآن أفضل بكثير من خسائر الانسحاب إذا ظلت بريطانيا في الاتحاد حتى تفكيكه المحتمل، بعد التفكيك فإن الاقتصاد الأوروبي كله سوف يتعرض لأزمة شاملة وسوف يدفع الجميع ثمن استمرار اتحاد يتداعى ويئن من أمراض كثيرة. وإذا استعرضنا تجارب التكتلات الاقتصادية في مناطق مختلفة من العالم فإننا نلاحظ أن التجارب أثبتت فشلها وأن كثيرا من التكتلات تراجعت وتحللت حتى منظمة التجارة العالمية، وهي التي وعدت العالم بازدهار الاقتصاد الدولي، فشلت في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي أعلنت عنها. والآن يقوم الأعضاء الموقعون على اتفاقية التجارة العالمية بالتجديف خارج السوق العالمية مخالفين نصوص الاتفاقيات التي وقعوها. وفي محيطنا العربي فإن اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية التي وقعت في عام 1950 وشارفت على استكمال نصوصها بتوقيع اتفاقية الرسوم الجمركية بعد نحو ستين عاما من المحاولات اللاهثة تشهد في هذه الأيام تراجعا ملحوظا حيث إن بعض الدول الموقعة على اتفاقية السوق العربية المشتركة بدأت تتراجع وتنسحب من كافة الالتزامات التي وقعت عليها، ونلاحظ ونحن نتابع جداول أعمال مجالس الجامعة أن قضية الوحدة الاقتصادية لم تعد تحتل الموضوعات الرئيسة في جداول الأعمال رغم أن القمة العربية التي عقدت في الكويت في عام 2009 عقدت من أجل مناقشة الوحدة الاقتصادية ، أي أنها كانت قمة اقتصادية فحسب.

أما في محيطنا الخليجي فإن الدول الخليجية وقعت بالفعل على الوحدة الاقتصادية الخليجية، كذلك وقعت على اتفاقية السوق الخليجية المشتركة. ولكن دولتين من ست دول وهما عمان والإمارات أعلنتا اعتراضهما على المشروع الاقتصادي الخليجي برمته، وأكثر من هذا فبعد الأزمة اليونانية طالب بعض الأعضاء الموقعين على المشروع بضرورة إعادة النظر في مشروع السوق الخليجية المشتركة. وإذا ذهبنا إلى قارتي أمريكا نلاحظ أن اتفاقية نافتا لم تعد من المشروعات المطروحة للمداولة بين الدول التي كانت حفية بالمشروع، حتى «آسيان» فإنها تأخذ خطوة للأمام وخطوة للخلف.

هذا يعني أن نظرية الميزات النسبية في التجارة الدولية لديفيد ريكاردو، نظرية مغرية على الورق ولكنها في التطبيق تواجه كثيرا من العوائق الواقعية.

في ضوء ذلك فإن تجربة الاتحاد الأوروبي جديرة بأن تكون على مائدة أي تكتل اقتصادي محتمل، لأنها تجربة كاملة بدأت من مفاوضات متعمقة.. حتى تنفيذ السوق الأوروبية المشتركة بل حتى إصدار العملة الموحدة.