&سالم حميد

فاضت وسائل الإعلام بسيل من التحليلات للتداعيات التي جرت في تركيا الأسبوع الماضي، على خلفية الانقلاب العسكري الفاشل، وما لم تتطرق إليه التحليلات عن الانقلاب وما تلته من اضطرابات واعتقالات هو أن ربط مصير تركيا بأردوغان يجعل التساؤلات حول مستقبل تركيا بعد أردوغان مشروعة. وهذا ما دفع محللين غربيين إلى استدعاء نموذج فنزويلا في عهد رئيسها الراحل هوجو تشافيز عندما ربط مصير بلاده بشعبيته الكبيرة، وعندما رحل عادت فنزويلا إلى مربع الفوضى والإشكالات الاجتماعية والاقتصادية المعهودة.

وحسب محللين فإن الشعبية التي يحظى بها أردوغان هي الفقاعة التي بمجرد ما إن تختفي ستنتهي معها الأسطورة المتعلقة بحزب «العدالة والتنمية» التركي الذي يرى فيه أتباع الإسلام السياسي العرب أنموذجاً ناجحاً، وقبل ذلك كانوا يعتبرون تجربة الترابي والبشير في السودان أنموذجاً مثالياً إلى أن انتهت حالة التوافق وانهار النموذج السوداني وانتقلت الأضواء إلى تركيا. ويحاول حزب "العدالة والتنمية" الحفاظ على شعبيته واستثمار تعاطف الشارع معه في مواجهة الانقلاب، لكن المؤكد أن تركيا مقبلة على مرحلة صعبة.

ويبدو أن المحاولة الانقلابية ستمثل محطة بداية لانتكاسات متوالية في الساحة التركية لا يمكن التنبؤ بتفاصيلها، إلا أن ضريبة استمرار أردوغان في إقصاء كل من يهددون شعبيته سوف تتحول إلى عامل محفز لاضطرابات محتملة في المستقبل. والكثير من الدول الأوروبية لم تخفِ امتعاضها من حجم الرد الذي قام به أردوغان عقب محاولة الانقلاب، وما جرى حتى الآن من اعتقالات وتجفيف المؤسسات التركية من أتباع رجل الدين فتح الله غولن يفوق التوقعات لدرجة أن البعض ذهب إلى القول بأن حجم الاعتقالات توحي بأن قوائمها كانت معدة سلفاً قبل الانقلاب.

من جهة أخرى يكشف اتهام أردوغان لرجل الدين فتح الله غولن بإدارة الانقلاب وبتشكيل كيانٍ موازٍ داخل الدولة التركية أن الصراع الدائر في تركيا يجري داخل منظومة إسلاموية واحدة وأنه مرشح للاستمرار في المستقبل على شكل موجات متكررة ستقضي على النموذج التركي الحالم الذي يقدم الإسلام السياسي في تركيا بصورة مثالية، فيما كشفت الأحداث الأخيرة عن أن الصراع يجري بين جناحين متنافرين: جناح «غولن» المهتم بما يوصف بالإسلام الاجتماعي، وجناح أردوغان الذي يميل إلى الإسلام السياسي الحركي، بما له من ارتباطات والتزامات عابرة لتركيا التي أصبحت في عهد أردوغان قبلة أنصاره والمجموعات الحالمة بعودة الخلافة ولو بشكلها العثماني. بينما خرج التيار العلماني في تركيا من المشهد بالفرجة على الخصمين اللدودين وبإضافة مخاوف جديدة على مستقبل تركيا من عودة الانقلابات العسكرية ومن تغول الإسلام السياسي الذي بات يخترق كيان تركيا ويتغلغل في كل مفاصلها على حساب صورتها العلمانية الطامحة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

من هذه الزاوية يمكن النظر إلى مستقبل تركيا الذي حصره أردوغان في مراهنة أتباعه على شعبيته التي ربما لا تدوم بسبب الاعتقالات الجماعية، والتداعيات الاقتصادية المتوقعة في المدى المنظور، وبخاصة أن الاستقرار الاقتصادي لا يتعايش مع الاضطرابات السياسية، ولا يوجد ما يشير إلى أن الأحداث الجارية لها سقف زمني محدد، فقد فتح الباب في تركيا أمام مرحلة من الغليان الداخلي، وفي الوقت ذاته هناك امتحان بقاء تركيا في حلف الأطلسي من عدمه وبخاصة بعد تلويح الولايات المتحدة بهذا الملف.

إجمالاً مثلت التناولات الإعلامية لأحداث تركيا الأخيرة بتناقضاتها وتضاربها انعكاساً لتناقضات المشهد التركي ذاته، إذ انحرف مسار الابتهاج بفشل الانقلاب العسكري من الحديث عن الديموقراطية والحكم المدني إلى الحديث عن أردوغان الذي بات منذ سنوات يختزل الحزب الحاكم والدولة في طموحاته. والصورة التي جرى تسويق أردوغان داخل إطارها تقدمه باعتباره الزعيم الإسلامي المنقذ والممسك بكل خيوط السياسة التركية الداخلية والخارجية، في حين كسرت المحاولة الانقلابية إطار هذه الصورة.