شتيوي الغيثي


أزمة الهوية تظهر دائما في الاحتكاك مع الهويات الأخرى، هذا الاحتكاك يجعلنا نتساءل حول مدى عمق ارتباط الهويات فيما بينها ومدى اختلافها، والنظر إلى بعضها البعض ..


الصيف موسم سفر غالبية الأسر السعودية، أو هو بالأحرى موسم الهجرة المؤقتة إلى كافة مناطق العالم، هذه الهجرة الجماعية تضع الثقافة السعودية والثقافة العربية على المحك، العادات والثقافات في مناطق العالم مختلفة، والثقافة السعودية لها وضعها الذي يعتبره البعض خاصة، لكن هذه الخصوصية تتلاشى أحيانا حينما تلتقي بآلاف السعوديين خارج هذه البلاد. الخصوصية التي يدندن عليها البعض لا تأخذ قيمتها إلا في الداخل السعودي. في الخارج يحصل نوع من الزحزحة الثقافية عند بعض الأسر تماشيا مع الوضع العام خارج هذه البلاد. هذه الزحزحة متعمدة في كثير من الأحيان بحكم الإحساس بإشكالياتها في الداخل السعودي أو في خارجه، لكن بالتأكيد أن بعض الأسر تحرص على إبقاء ثقافتها كما هي متمثلة في الخارج بكل ما يعنيه ذلك التمثل. الإشكالية أن هذا التمثل غالبا ما يسبب إشكاليات أخرى في فهم الآخر لهذه الثقافة كالنقاب مثلا في الدول التي تحظر هذا النوع من اللباس بحكم الجانب الأمني، لكن التمثل الثقافي السعودي أو العربي بشكل عام يرفض فهم طبيعة الآخر لكي يستطيع التعامل مع مثل هذه الإشكاليات ما يسبب صداما فكريا أو عدم فهم متبادل يضع الثقافة السعودية أو العربية موضع جدل طويل، وتزداد هذه الإشكاليات في التمثل العربي لهويته التي تتناقض أحيانا مع حقوق الآخرين كالإيمان بالحريات والقمع الثقافي والديني وغيره، مما يسبب أزمة هوية مع الآخر الذي يذهب إليه العربي بنفسه لكي يعيش في بلاد تختلف عن بلاده ثقافة وفكرا وسلوكا، الأمر الذي يتطلب من هذه الأسر أن تتفهم وضع تلك الدول وتتماشى مع ما تستطيع التماشي معه.

بالطبع أن الدول الأخرى تعطي مساحة حرية واسعة للثقافات المختلفة، ولا تفرض ثقافتها على ثقافة الآخرين الذين يعيشون تحت كيانها السياسي، فهي تحترم ثقافة الحجاب مثلا وتعتبره ثقافة خاصة، لكن في المقابل تعطي مساحة لغير المحجبات، الأمر الذي يسبب إشكالية ثقافية عربية للأسر التي تطلب من بناتها الحجاب في حين ترفض البنات ذلك الحجاب بحكم تواجدها في الثقافة الغربية. ربما لا ينطبق هذا الكلام على الأسر السائحة بقدر ما ينطبق أكثر على آلاف المبتعثين أو العرب الذين يعيشون في الغرب منذ سنوات طويلة. التعامل مع هذه الحريات تسبب أزمة هوية عربية عميقة ما بين ثقافة حالية جديدة، وثقافة أصيلة لها جذورها الاجتماعية والدينية. الاختلاف بين الثقافتين يربك كثيرا من المفاهيم العربية التي تعودت على السلطات الذكورية مثلا في مقابل الحق الأنثوي بالحياة.

من السهل أن تصادف عربيا في إحدى الدول الغربية عاش مدة طويلة جدا تتجاوز - ربما - الثلاثين عاما، كما أنه قد يكون حاصلاً على الجنسية من إحدى تلك الدول، لكن فكره ينتمي إلى ثقافة عربية خالصة يرفض تماما حريات الآخرين الذين منحوه حق الوجود في تلك الدولة أو ربما يرفض انخراط أبنائه في الثقافة التي يعيش فيها، الأمر الذي يخلق حالة مشوهة في الواقع المنتمي إليه. صادفت عربيا من الصومال حصل على الجنسية الأميركية، لكنه يرفض العيش في أميركا، وعاد إلى الصومال ثم غادرها وعاش في كينيا وتزوج هناك، وحينما سألته عن سبب كل تلك التنقلات قال لي بالحرف الواحد: لا أريد أبنائي أن يتربوا على الثقافة الأميركية! سألته: ماذا لو اختار واحد منهم العيش في أميركا؟ امتعض من سؤالي وأجاب إجابة سريعة بأنه لا يستطيع أن يرفض ذلك، ثم غيّر موضوع الحديث تماما إلى موضوع آخر.
أزمة الهوية تلك تتكرر كثيرا لدى عامة العرب الذين يعيشون في الثقافات المختلفة، والشباب المبتعثون من السعودية غالبا ما يعودون دون أدنى تأثير يذكر على تهذيب سلوكياتهم؛ خاصة تجاه النظر إلى المرأة رغم عيشهم سنوات الدراسة المختلطة، وقد يصاحبون عددا من الصديقات، لكن هذه الثقافة تبقى خارج البلاد ولا تتهذب مع الوقت..

أذكر أنني قرأت في رواية علاء الأسواني: (شيكاجو) نوعا من تلك الشخصيات التي لم تستطع العيش بسهولة في الثقافة الأميركية حتى ذلك العربي الذي يعتبر نفسه أميركيا ارتد على فكرته وعاد يتعامل مع زوجته كرجل عربي خالص الذكورية، إذ كانت الثقافة الأميركية بالنسبة له شكلية الطابع وليست عميقة الهوية.

ليس المطلوب من الحديث هنا في هذا المقال هو اندماج الثقافة العربية في الثقافة الغربية كما سيظن البعض، لأنني أؤمن بحق الإنسان في الحفاظ على هويته، إضافة إلى أهمية القيمة التعددية للثقافات بشكل عام، وإنما المقصود هو احترام ثقافات الآخرين في نفس الوقت الذي يطلب العرب من الآخرين احترام ثقافاتهم. الإشكالية التي دائما ما تطرح نفسها هي في مسألة أهمية الحقوق العامة والخاصة. في أحد المرات شاهدت طفلة صغيرة لا تتجاوز التاسعة أو العاشرة من عمرها محجبة بالكامل. هذا خارج حق الطفولة بالعيش رغم قبول الثقافة العربية بتحجيب طفلة ـ وهو سلوك ربما يكون نادرا لكنه موجود ـ حق الطفولة لا يمكن أن يلغى بسبب مفهوم الحفاظ على الهويات. حق المرأة العربية غير المحجبة مثلا في عدم ارتدائها بالحجاب لا يجعلنا ننظر إليها بشكل استحقاري لكونها غير محجبة بحكم مفهوم الحفاظ على الحريات.
أزمة الهوية تظهر دائما في الاحتكاك مع الهويات الأخرى، هذا الاحتكاك يجعلنا نتساءل حول مدى عمق ارتباط الهويات فيما بينها ومدى اختلافها، والنظر إلى بعضها البعض، والأهم هو مدى احترام تلك الهويات لبعضها.
&