&السيد ولد أباه

مع أن تركيا عرفت من قبل أربعة انقلابات عسكرية، لم ينل الحدث التركي سابقاً ما نالته المحاولة الانقلابية الأخيرة من اهتمام في الساحة العربية. ولا شك أن لهذا الاهتمام علاقة مباشرة بطبيعة نظام الحكم في أنقرة وخياراته السياسية التي من مرتكزاتها دعم حركات الإسلام السياسي العربية المعارضة. قرأنا لبعضهم في أوج الحماس لفشل الانقلاب، إن الرئيس أردوغان هو زعيم الأمة وأملها الوحيد، في حين ذهب آخرون إلى أن فشل المغامرة العسكرية دليل على تعمق وتجذر الديمقراطية الوحيدة في المنطقة التي لم يعد من مبرر للخوف عليها، ولذا فإن تركيا الجديدة ستكون أكثر مناعة واستقراراً.

وما تكشف عنه هذه التعليقات والتحليلات المنتشرة هو جهل تام بالتجربة التركية الحديثة التي لا تزال غير معروفة في نشأتها وتحولاتها في الكتابات العربية، بما ينعكس في اختزال هذه التجربة في تصورين سائدين، يذهب أولهما إلى قراءة المشهد السياسي على أنه صراع بين قوة علمانية مستندة إلى المؤسسة العسكرية التي كانت إلى عهد قريب مهيمنة على مركز الحكم، وقوة ديمقراطية شعبية يمثلها اليوم حزب «العدالة والتنمية». ويذهب ثانيهما إلى النظر إلى المشهد ذاته بصفته تجسيداً لصراع فكري وحضاري بين تيار التغريب وتيار الأصالة الإسلامية الذي يمثله أيضاً حزب أردوغان المنتصر.

وما نريد أن نبينه هو أن التجربة التركية لا يمكن أن تقرأ، لا من منظور النموذج الأوروبي في التحول السياسي، ولا من منظور تجارب الإسلام السياسي العربية رغم التحالف القائم بين أردوغان وجماعات الإسلام السياسي العربية، ورغم انحدار بعض قيادات حزبه من الأوساط الإخوانية الأربكانية.

فبخصوص الديمقراطية التركية التي بدأت عام 1946 بعد فترة تأسيس الدولة القومية (1923)، لابد من الانتباه إلى أنها قامت على خصوصيتين بارزتين هما: الدور المحوري للمؤسسة العسكرية في تشكيل النظام السياسي والحفاظ عليه، وحالة الاستقطاب والإدماج المزدوجة في التعامل مع المجتمع المدني الذي يتشكل أساساً من النخب الأهلية المحلية والقومية والجماعات الصوفية.

وفي الجانب الأول، نلمح إلى أن دور المؤسسة العسكرية في السلطة لم يكن من اختراع مؤسس الدولة الحديثة «أتاتورك»، بل يتناغم مع تجربة طويلة قامت فيها السلطنة العثمانية على محورية الجيش من حيث هو دعامة السلطة الإمبراطورية، وقد تعزز هذا الدور مع الإصلاحات التي عرفت بالتنظيمات في نهاية القرن التاسع عشر. والتحول الوحيد الذي حدث في عهد أتاتورك هو تحميل المؤسسة العسكرية مهمة الحفاظ على القيم الجمهورية العلمانية نتيجة لهشاشة وضعف التركيبة المجتمعية المتنوعة في كيان فقد سمته الإمبراطورية، ولكنه لا يزال يدير بصعوبة العلاقة بين مركزه في الأناضول وهوامشه القومية والطائفية المتمنعة على البناء المركزي الوطني القائم على الهوية التركية السنية.

ومن هنا، فإن خطورة ما جرى في المحاولة الانقلابية هو بروز شرخ عميق في المؤسسة العسكرية في مرحلة انفجرت فيها مجدداً المطالَب القومية (الكردية) والطائفية (العلوية)، ومن الواضح أن تعامل أردوغان مع هذه الأزمة لا يختلف عن من سلفه، أي الاعتماد على القيادات العسكرية الموالية في تدعيم مركزه السياسي وليس إنهاء الدور السياسي التقليدي للجيش.

كما أن صِدام أردوغان مع جماعة جولن يندرج في المنطق التقليدي للصراع السياسي الداخلي في تركيا، باعتبار أن من ثوابت الديمقراطية التركية تنافس الأحزاب والتنظيمات على اختراق مراكز النفوذ والتأثير في المجتمع، ما حدا ببعض علماء الاجتماع الأتراك إلى القول إن الدولة التركية الحديثة لا تنطبق عليها مقاييس الدولة البيروقراطية العقلانية الموضوعية التي تتعالى على التدافع السياسي الخصوصي، بل هي محور هذا التدافع. وهكذا نلمس كيف أن أردوغان لم يكتف بعد فشل الانقلاب باعتقال ما يزيد على عشرة آلاف عسكري، بل عمد إلى تصفية الإدارة والقضاء والإعلام من أنصار جولن، بحيث تجاوزت هذه التصفيات خمسين ألف موظف في الإدارة العمومية بما لا يمكن تصوره في دولة ديمقراطية عادية.

أما الجانب الثاني المتعلق بطبيعة الخيارات العقدية والفكرية، فمن المثير أن الإسلاميين العرب ينظرون إلى حزب العدالة والتنمية على أنه قد هزم العلمانية الأتاتوركية، في حين أنه خلال أربع عشرة سنة من الحكم لم يغير شيئاً في طبيعة النظام الدستوري والسياسي للدولة، ولا يزال الأساس العلماني للدولة قوياً ثابتاً، بل إن أردوغان لم يفتأ يكرر حتى بعد فشل الانقلاب الأخير أن حزبه ليس دينياً ولكنه ليبرالي محافظ يتشبث بالعلمانية. وما غاب عن كثيرين هو أن العلمانية التركية ليست هي اللائكية الفرنسية المحايدة إزاء الدين، بل هي منذ نشأتها مهيمنة على الحقل الديني ومتحكمة فيه، وهو الخيار الذي يتبناه أردوغان ويستغله إقليمياً بالبروز زعيماً إسلامياً للمنطقة حتى لو كانت موازين الواقعية السياسية فرضت عليه العودة إلى الروابط التقليدية مع إسرائيل والمصالحة مع روسيا. والواقع أن الأزمة الحالية لا علاقة لها بالمقاييس الدينية، باعتبار أن الطرف المستهدف بالتصفية هو حركة صوفية دعوية تنتمي إلى أعماق المجتمع الأهلي التركي الذي كان دوماً حاضن الحركة الاحتجاجية، وقد تحالف أردوغان معها لمدة طويلة لأغراض انتخابية، وكان يقدم نفسه قريباً من مشربها الروحي.

وحاصل الأمر أن ما تعيشه تركيا راهناً ليس صراعاً حول الديمقراطية أو الدين، بل هو مظهر عادي لأزمات سياسية مألوفة في تركيا الحديثة، وإنْ تغيرت توازنات الحالة السياسية الداخلية.