&هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «أنف روماني معكوف»

سمير عطا الله


كل بلد في العالم هو بلد تناقضات، إلا ربما آيسلندا، التي ظل عرقها صافيًا صفاءً تامًا. فمن يريد الهجرة إلى بلد يعم فيه الصقيع في الليل، وتُجن براكينه في النهار حتى يعطل دخانها حركة الطيران حول العالم! لكن ما من بلد يحوي من المتناقضات ما تحويه إيطاليا، بلاد الفاتيكان وأكبر حزب شيوعي في أوروبا. الجنوب الفقير والشمال الصناعي، المافيا والقضاة النزهاء الذين يدفعون حياتهم ثمن محاربتها، الآثار الخارقة الجمال من أيام روما القديمة، وفوضى السير في روما اليوم، كأنك في بيروت أو القاهرة، وأحيانًا - والعياذ بالله – كأنك في كراتشي ساعة الزحمة، لا سمح الله.

كان لا بد أن أجد لنفسي موضوعًا أوروبيًا كل عام أسافر من أجله. ولما لم يكن من الممكن عقد انتخابات رئاسية، أو برلمانية في فرنسا كل سنة، فقد كان لا بد من العثور على قضايا أخرى، أولاً، تستحق الكتابة عنها، وثانيًا، تقنع «النهار» بدفع تكاليفها. اخترعتُ إيطاليا. صحيح أنها لا تعني القارئ اللبناني كثيرًا، ولكن في الشؤون الإيطالية من البهار والملح ما يكفي لإمداد رحلة كاملة، ما بين تخلف نابولي وشرفاتها المليئة بالغسيل المنشور، وأزقتها البائسة، وما بين روما، متحف العالم المفتوح والمجاني.

لعل الرحلة نفسها في القطار (درجة ثانية) كانت الأكثر إثارة. الإيطاليون يتحادثون بأيديهم وأرجلهم وإيماءاتهم وحركات الوجوه والعبوس والضحك وأمارات التعجب، ولا يعود مهمًا على الإطلاق، أن تعرف من اللغة شيئًا. وبسبب حجم أنفي، الذي يعرف في إيطاليا بـ«الأنف الروماني» نظرًا لعظمته المعكوفة، فالجميع يتحدثون وهم واهمون بأنني «واحد منهم». وعندما يحتد النقاش حول أمر جلل، يلتفت أحدهم إليّ ويسألني على طريقة سعد بوعقبة صاحب «نقطة نظام»: «أليس كذلك؟». فأحني رأسي بسعادة وموافقة مفروغ منها، أي: طبعًا، هو كذلك.
كانت إيطاليا لا تزال كعادتها، حائرة، هل هي أم الفاشية التي روعت حياتها، أم هي الديمقراطية الموعودة؟ هل ستظل تغير حكوماتها مرة كل ثمانية أشهر، لتشكل حكومة ائتلافية هزيلة أخرى، أم سوف تعرف، ولو قليلاً، من الاستقرار والازدهار الذي عم على حدودها في فرنسا والنمسا؟ لقد سقطت في الحرب مهزومة بالضربة القاضية. فعندما أيقن تشرشل أنه لن يستطيع ضرب قوة هتلر،

اتجه نحو تدمير حليفه موسوليني. فعمد إلى شل الأسطول الإيطالي في المتوسط، ثم توجه نحو ليبيا لتفكيك «إمبراطوريته» في شمال شرقي أفريقيا. وفي منتصف الحرب كانت إيطاليا قد فقدت معنوياتها كدولة قوية وموحدة، أما في نهايتها، فكانت الفاشية قد انتهت هي أيضًا، وتاهت هذه الأراضي الجميلة في البحث عن «دوتشي» جديد، أو بالأحرى عن نقيض لديكتاتوريته ومغامراته وغروره. وهكذا، اتجهت نحو الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي المسيحي، والحزب الجمهوري، وحزب إعادة الملكية، ومجموعة أحزاب صغيرة أخرى، لا يزيد عدد أعضائها على عدد مؤسسيها وأمهاتهم.
إلى اللقاء.
&

&