&فـــؤاد مطـــر
&
بين أول قمة عربية والقمة الأحدث التي كان أهل الحُكم الموريتاني مِقْدامين في استضافتها، (سبعين) سنة لا أبا لك تسأم الأمة من رتابة نتائج بعض القمم وعلو الهامة العربية خلال انعقاد القليل من هذه القمم وبالذات الاستثنائي منها.


في القمة الأولى التي استضافها الملك فاروق في منتجعه «أنشاص» 28 - 29 مايو (أيار) 1946 كانت هنالك لهفة ملحوظة من قادة ذلك الزمن العربي الغابر على أن يلتقوا ويتشاوروا ويتعرف هذا الحاكم على ذاك بافتراض أنهما لم يلتقيا بعد. ومن شدة اللهفة أمضى القادة ثلاثة أيام بلياليها مستمتعين بضيافة فاروقية ذات عشر نجوم، كما أن الملك المضيف أسبغ على بيان القمة بقراراتها المبسَّطة أهمية استثنائية، حيث إنه أبقى القادة في رحاب «أنشاص» يتسامرون ويتجولون في حدائق المزارع إلى حين انتهاء الخطاط من كتابة البيان والمقررات بماء الذهب، بناء على طلب الملك المضيف ودهشة القادة الضيوف. هل ما زال هذا البيان التحفة الفنية ضمن أرشيف الجامعة، أم أنه بقي ضمن مقتنيات الملك فاروق وبالتالي لدى الدولة المصرية؟ لا ندري.

في أحدث القمم، أو فلنسمِّ الذي شهدتْه نواكشوط يوم الاثنين 25 يوليو (تموز) 2016 بأنه كان اجتماعًا على درجة من الندرة في تاريخ القمم العربية، ذلك أنها المرة الأولى التي يجد فيها رؤساء حكومات ووزراء أنهم مكلَّفون من قادتهم بتمثيلهم في هذا الاجتماع الذي كانت ولادته قيصرية، لعبت الظروف فيه دورًا أساسيًا. فالمملكة المغربية اعتذرت لأن الملك محمد السادس قرأ المشهد السياسي الراهن بعيني والده الراحل الحسن الثاني. وزيادة في التأمل رأى أن القمة الناجحة هي التي تكون بنجاحات القمم السبع التي استضافها والده - بين 13 : 17 سبتمبر (أيلول) 1965 و23 : 26 مايو 1989، وإذا كانت التناقضات العربية وصلت إلى حد أن النجاح ولو في الحد الأدنى لن يتحقق، فمن الأفضل الاعتذار وباللباقة الملكية المغربية عن الاستضافة. وهذا ما حدث. وعندما يطول أمد حسْم مسألة الاعتذار فلأن قراءة الملك محمد السادس ومشاوراته أوجبت ذلك. كما أوجبت عدم إرفاق الإعلان عن الاعتذار باحتفاظ المغرب بحق الاستضافة لاحقًا وعلى نحو ما سبق وحدث مع تونس في زمن الرئيس زين العابدين بن علي.

تُحسب لموريتانيا الشعب والحُكْم معًا هذه الاستضافة الطَّوارِئية. فليس بالأمر السهل تأمين المستلزمات ولو في الحد الذي يلائم مثل هذا الاجتماع، خصوصًا أنه جديد على هذه الدولة متنوعة التراثات. والمألوف أن الدول التي تستضيف القمم تستبق الانعقاد بإنشاءات كأن تكون قصر مؤتمرات أو فندقًا أو مجمع فيللات (هذا حدث في عدة عواصم عربية) وتأثيث ومستلزمات تجعل الاستضافة بمستوى القرارات أو على الأقل تعوِّض الاستضافة بكل مناحي الاهتمام عن قرارات استعصى على القمة التوافق عليها. ومثل هذا الأمر لم يتيسر لموريتانيا فاكتفت بالخيمة مقرًا للانعقاد، وهي رمز مضيء لجهة تراث الأقدمين من القادة العرب، وفي الوقت نفسه هي رمز مستحدَث للأحوال العربية، حيث خيام اللاجئين العرب تكاثرت خلال خمس سنوات فلم يعد اللجوء فلسطينيًا والخيمة رمزًا للفلسطيني، وإنما بات اللجوء سوريًا وعراقيًا وليبيًا وسودانيًا ويمنيًا.

بالخيمة الموريتانية مقر للاجتماع والفرسان على ظهور الإبل توأم الجياد العربية الأصيلة، والأمن الذي طالما تتباهى به موريتانيا، أضفى المضيف على الاجتماع الفريد من نوعه لجهة التمثيل والقرارات لمسة تضحية في صيغة أداء واجب قومي تؤخذ في الاعتبار، ذلك أنه باستضافة الاجتماع بما تَيسَّر أبقى على صيغة القمة السنوية وفق قاعدة الأبجدية، ذلك أنه في حال انقضى العام ولم تنعقد القمة فإن ذلك يشكل جلطة سياسية، أي بما معناه أن فكرة القمة الدورية تذبل ولا تعود من علامات التشاور العربي الموسَّع. ومن هنا فإنه رغم الانطباع الذي ساد عن اجتماع موريتانيا يبدو أن هذا الاجتماع الذي هو القمة الدورية السابعة والعشرون بأهمية القمة الاستثنائية التي استضافها السودان في الخرطوم يوم 29 أغسطس (آب) 1967 وكانت الاستضافة ببساطة استضافة موريتانيا في نواكشوط للقمة العربية الدورية السابعة والعشرين.

أما أين هي الأهمية في كلا القمتيْن فللأسباب الآتية:
بالنسبة لقمة الخرطوم، غابت الأُبهة عن الطقوس بدءًا من المطار وحتى مقر الإقامة وقاعة الاجتماع. الجموع الشعبية كانت هي التي استقبلت الملوك والرؤساء مع تخصيص الملك فيصل بن عبد العزيز والرئيس جمال عبد الناصر باستقبال قل نظيره. والإقامة كانت في فندق فوق المتوسط بقليل. وقاعة الاجتماع لا علاقة لها بمستلزمات الترف. والترويح عن نفوس المشاركين هو رحلة نيلية رمزية فوق مركب.

والسلامة يتولاها الناس ورجال الأمن. والطعام من خيرات أراضي الدولة التي كأنها قارة. والانشراح على وجوه الناس المبتهجة بأنهم مضيفو كبار الأمة وبالذات فيصلها وناصرها. والنيات على خير ما تكون عليه إزاء الظروف التي تعيشها الأمة. ومن أجل ذلك انتهت هذه القمة تؤسس لنهوض من تداعيات زلزال الخامس من يونيو (حزيران) 1967. بل يجوز القول إن القمة العربية الاستثنائية في الخرطوم شجعت ظاهرة القمم الاستثنائية، وأكدت أنه حتى في إطار الانعقاد البعيد خيارًا أو اضطرارًا عن الأُبهة يمكن إنجاز ما يرفع من الهامات.

بالنسبة لاجتماع نواكشوط، أي القمة العربية الدورية السابعة والعشرين، إن بساطة أجوائها عمومًا والظروف التي أوجبت الانعقاد أثبتت ما يمكن اعتباره قمة الطوارئ، وهذا بما معناه أن انعقادها أنقذ صيغة القمة الدورية، وبالتالي فإن الانعقاد الأبجدي سيتواصل ما لم ينشأ في ضوء الذي ارتآه المغرب اعتذارًا وارتضته موريتانيا اضطرارًا طي صيغة القمة العربية الدورية والاكتفاء بالقمة العربية الاستثنائية تنعقد في رحاب مَن يدعو إليها. وفي المقابل يكون مجلس الجامعة بصيغة يتمثل فيها رموز السياسة الخارجية ورموز المؤسسة الأمنية ورموز السياسة الاقتصادية هو الذي يجتمع مرة أو أكثر أو عندما تدعو الحاجة وفي مقر الجامعة، ثم يضع أمام القيادة السياسية تصوراته وبحيث تتخذه هذه القيادة ما تراه مناسبًا.

ونقول ذلك على أساس أن صيغة القمة الدورية وفق الترتيب الأبجدي حققت الغرض، بمعنى أنه لم تعد هنالك دولة عربية تشعر أو تشكو بأنها لم تستضف القمة. ونقول ذلك أيضًا على أساس أنه بعدما ذاق الجميع حلاوة الاستضافة فإنه لا بد من خطوة تجديد ما.

ويبقى أن الأشهر العشرة التي سبقت اجتماع نواكشوط كانت شهدت قممًا ثنائية وثلاثية في الرياض نتجت عنها ملامح استراتيجية للزمن الراهن وبعضها في اتجاه آفاق مستقبلية. وهذا يعني أن مثل هذه القمم التي كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز راسم خرائط طريقها في الاتجاهات العربي والإقليمي والأفريقي والإسلامي والدولي، هي الحاضرة بكل العزم في المشهد السياسي وأن الذين التقوا في رحاب الخيمة الموريتانية أخذوا ذلك ولا بد في الاعتبار.

وأما نواكشوط المتجملة والمبتهجة بإخوانها العرب الذين ما كان لبعضهم أن يرى شعب هذه الدولة المثلثة التراث لولا أن شقيقهم المغربي اعتذر عن عدم الاستضافة فقرر الشقيق الموريتاني أن يكون مضيفًا، فإنها عاشت يومًا وليلة عربية بامتياز. وستبقى خيمة «قمة الأمل» رمزًا يحمل معاني التفاؤل بالخير علَّه يخرج من ثنايا نبْذ اليأس والاستحضار دائمًا للكلام الطيِّب للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم «المؤمنون إخوة، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهُم. وهم يد على مَن سِواهم».
.. وعلى الله التوكل.&

&