&الياس حرفوش

نجح تنظيم «داعش» في اختراق جدران الأمن في الدول الغربية بطريقة وأسلوب فاقا ما حققه تنظيم «القاعدة» من قبله. لم يعد «داعش» في حاجة إلى استخدام طائرات لاقتحام العمارات الشاهقة، ولا حقائب محشوة بالمتفجرات لتفجير الباصات والقطارات وحافلات النقل، ولا أحزمة ناسفة يزنّر بها عناصره أجسادهم، ويسهل اكتشافها من جانب أجهزة الأمن. كما لم يعد «داعش» في حاجة إلى تصدير الرجال الذين يسميهم «جنود الخلافة»، إلى شوارع الدول الغربية، مثلما كان يفعل «القاعدة»، كي لا يتحولوا إلى صيد ثمين عند حواجز المطارات. «جنود داعش» يقيم معظمهم في البلدان الأوروبية، يحملون جنسياتها ويتمتعون بكامل حقوق المواطنة فيها، ويكفي أن يحمل أحدهم سكيناً عادية من تلك السكاكين التي تستخدم لتقطيع اللحم في المطابخ لجزّ رأس الضحية التي تقع بين يديه، أو أن يقود شاحنة من تلك التي نراها كل يوم تنقل البضائع على الطرق، فيستخدمها لدهس ضحاياه. أمام هذه «الابتكارات» تقف أجهزة الأمن عاجزة، إذ كيف السبيل لمنع الناس من حمل السكاكين أو لوقف سير الشاحنات على الطرق؟

تفوّق «داعش» على «القاعدة» في أسلوب المواجهة، في هذه الحرب المفتوحة مع المجتمعات الغربية، كما وصفها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند. تفوّق أولاً لأن «جنوده» بمعظمهم مواطنون غربيون نشأوا في هذه الدول، يحملون جنسياتها، ويسهل عليهم التحرك فيها من غير أن تتمكن الأجهزة الأمنية أو السلطات من ملاحقتهم من دون مبرر قانوني، كي لا تتحول هذه الملاحقة إلى خرق لحقوقهم المدنية. هذا يعني أن الجرائم التي يرتكبها هؤلاء «الجنود» بصورة مفاجئة يصعب منعها قبل وقوعها، ويصعب بالتالي حماية المواطنين منها، مثلما تصعب ملاحقة المرتكبين أمام القضاء والاقتصاص منهم، فهم ذاهبون أساساً إلى «الاستشهاد»، ولا يقلقهم كثيراً أن يتحولوا إلى جثث بعد تنفيذ أوامر العمليات التي يقومون بتنفيذها.

تفوّق «داعش» أيضاً، إذ نقل حربه ضد الدول الغربية إلى حرب داخل هذه الدول التي يصفها بـ «دول التحالف الصليبي»، مع ما تعنيه هذه الصفة من تعميق الفتنة الدينية وتكريس نظرية «صراع الحضارات»، التي يرى «داعش» من خلالها العالم منقسماً إلى «فسطاطين»، وفق رؤية أسامة بن لادن، الذي لم يُتح له أن يعيش ليرى هذا الانقسام يستهدف مجتمعات الغرب بهذا العمق. وليس قليلاً أن يخرج هولاند، رئيس الدولة الأوروبية التي تفاخر بعلمانيتها، ليتحدث عمّا يتعرض له «الكاثوليك»، في تعليقه على جريمة ذبح الكاهن الفرنسي. مثلما كان ذا معنى تحذير رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس من أن هدف «داعش» هو تأليب الفرنسيين على بعضهم والتسبب بحرب بين الأديان.

كيف تستطيع الدول الغربية التي أصبحت في عين العاصفة أن ترد على استهدافها؟ الأصوات اليمينية في أوروبا، خصوصاً في فرنسا وألمانيا اللتين تعرضتا أكثر من سواهما للهجمات الأخيرة، تدعو إلى تكثيف إجراءات الأمن، في ظل الإهمال الواضح الذي ظهر في الاحتياطات الفرنسية، حيث كانت هوية أحد الإرهابيين اللذين اقتحما الكنيسة معروفة من جانب الشرطة التي كانت تتابع تحركاته من خلال إسوارة إلكترونية، لكنه استغل الفترة التي كان يسمح له فيها بالخروج من المنزل لارتكاب الجريمة.

غير أن اصواتاً أخرى تحذر من تحويل المجتمعات الغربية إلى مجتمعات تحكمها أنظمة بوليسية، وترى أنه سلاح ذو حدين، فمن جهة هو يغير الطبيعة الليبرالية لهذه المجتمعات، ومن جهة أخرى يزيد من عمق الشرخ الذي يسهل استغلاله للانقضاض على هذه الأنظمة التي ستوصف في هذه الحال بـ «الديكتاتورية»، بهدف استعادة دولة القانون. وفي الحالتين يخدم تحوّل كهذا أعداء الليبرالية الغربية والساعين إلى سقوط هذا النموذج من تعايش الشعوب والأديان والحضارات، وفي مقدمهم بالطبع تنظيمات على شاكلة «داعش».