&محمد الرميحي
&
الأسبوع قبل الماضي قرر معظم مندوبي الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة المجتمعين في كليفلاند (أوهايو)، أن يكون مرشحهم في السباق إلى البيت الأبيض دونالد ترامب. استوقفني أحد التعليقات في مجلة أسبوعية بريطانية أشار فيها كاتب المقال الذي خصصه حول ظاهرة ترامب، إلى أنه استطاع تجميع «خلطة الباجة» من المؤيدين له من قوس القزح الأميركي، في إشارة إلى «البواقي التي تدخل في وجبة الباجة الموصلية المعروفة». من السابق لأوانه اليوم الحديث عمن سوف يدخل البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) المقبل عام 2017، يقينًا لدينا الآن مرشحان للسباق، هما هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، يبدأ تاريخيًا ظهور إشارات الأسبق إلى الوظيفة الكبرى، التي لا تهم أميركا وحدها بل والعالم بالاتضاح نسبيًا، عندما تبدأ استطلاعات الرأي العام تظهر في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل وما بعده بقليل، وقتها يمكن الإشارة بشيء من اليقين إلى من سوف يكون القابض على زر السر النووي الأميركي الخطير في عالم اليوم.


بعد حصول ترامب على الترشيح تبدو الظاهرة «الترامبية» مثيرة ولافتة للنظر. رجل بدأ وحيدًا في يوليو (تموز) من العام الماضي، وبتمويل من نفسه للدخول في السباق الطويل، وكان معظم المراقبين «يستخفون» وحتى «يهزأون» من جدية حضوره في الساحة السياسية الأميركية وحيدًا دون حزب يمول حملته أو ماكينة حزبية تدعمه، حيث إنه «خارجي» عن كل الإطارات السياسية العتيدة، وثانيًا هو رجل أعمال وليست له خلفية ثقيلة في العمل السياسي وألاعيبه. وظلت معظم وسائل الإعلام، الأميركية أو العالمية على السواء، «تسخر» وبشيء من العداء من القادم الجديد للعمل السياسي، وبدا أيضًا خارج السرب فيما يعرف اصطلاحًا بـ«الصحيح السياسي»، أي التجرؤ في الخوض في القضايا الخلافية بشدة، كمثل العلاقة بين الأجناس أو الشعارات الصاعقة، مثل منع المسلمين من الدخول إلى الولايات المتحدة، أو إعادة تهجير كل من ليس له وضع قانوني في الولايات المتحدة (وهم بالملايين)، أو التواصل مع ديكتاتور كوريا الشمالية! ومثل تلك الشعارات التي يتهيب السياسي المخضرم من الإشارة إليها.
قيل في البداية إن ترامب ربما يحصل على 25 في المائة من أصوات الناخبين الجمهوريين (في انتخابات التصفية) على الأكثر، ثم ارتفعت النسبة إلى 30 في المائة ثم 40 في المائة، إلا أن أكثر المتفائلين لم يستطيعوا رؤية ترامب مرشحًا وحيدًا لخوض الانتخابات. لقد كان أمامه عدد ستة عشر مرشحًا من أهل الخبرة، بعضهم لعائلته أقدام راسخة في تزعم الحزب الجمهوري، وتساقط أمامه كل الستة عشر، واحدًا تلو آخر، حتى في آخر السباق، لما تحالف اثنان منهم معًا للوقوف ضده، تفوق عليهما!


إذن الموضوع أعمق من كون رجل يقول «سخافات» في السياسة العامة يصل إلى الترشيح الأخير لأهم وظيفة ولأكبر دولة في العالم لأسباب عاطفية فقط، يبدو أن ترامب قرأ (أو قُرئ له) انصراف الجمهور الأميركي (خلطة الباجة) عن كل السياسيين التقليديين، سواء الجمهوريون أو الديمقراطيون، وغضب هذا الجمهور من متسببين في تردي الأوضاع التي وصلت إليها الطبقة الوسطى الأميركية في الداخل، و«الإهانة» التي يشعر بها البعض جراء السياسات الخارجية الفاشلة في الخارج. لقد انتهت مؤسسة «الحزب الجمهوري» بعد ترشيح ترامب، إلى أن يكون أهل الخارج هم في الداخل، وأهل الداخل هم في الخارج، وغاب عن مسرح «تتويج المرشح الجمهوري» نجوم الحزب السابقون ومؤسساتهم! رغب الناخب الأميركي أن يأتي بشخص «يمثل رغباته» بعيدًا عن الكوكبة السياسية التقليدية، التي بدت أمام هجوم ترامب الكاسح أنها «نمور من ورق» لما عرف بعضهم أنه قادم لا محالة التحق بركبه، كما رأينا في اجتماع الممثلين في كليفلاند الأسبوع قبل الماضي. لقد عرف ترامب كيف يستفيد من «الغضب» لدى، على الأقل، اليمين الجمهوري، البيض في الغالب من الطبقة الوسطى وما دونها، فارتضوا أن يسيروا وراء «ملياردير» في تصور أنه سوف يعيد لهم حقوقهم! مع شعارات مثل التخلص من المهاجرين، الذين يحصلون على أعمال تلك الطبقة ويقبلون بأجور زهيدة، والمسلمين (الذين يصورهم على أنهم الأصل في كل الشرور ويربط اسمهم بالإرهاب)، ولكن إضافة إلى وضع اقتصادي متراجع، وصل الدين العام فيه إلى رقم فلكي، هو تسعة تريليونات دولار، فقط في السنوات السبع الماضية (عهد باراك أوباما)، بجانب فشل لعقد طويل من الحروب الخارجية في كل من أفغانستان والعراق، مع إضافة فشل ثالث هو الانسحاب دون خطط واضحة، ثم ترك الأمور تتفاقم بالتراجع عن «الخطوط الحمراء» التي تحدث عنها أوباما حول سوريا (في خطاب القبول لترامب، تم الحديث عن كل الموضوعات بجانب الفشل في بنغازي) الإشارة الأخيرة خاصة بالسيدة هيلاري كلينتون! (كانت نائمة عندما قتل سفيرها في بنغازي)! بل والإشارة إلى الانعطاف مائة وثمانين درجة تجاه إيران، التي استفادت، كما يرى المعسكر الترامبي، من ذلك التراجع الأميركي، وهي بصدد صنع سلاح مدمر في القريب، ربما يستخدم ضد المدن الأميركية! بجانب الشعار العام (إعادة عظمة أميركا)! لقد استخدمت ضد ترامب تكتيكات مختلفة، منها الهجوم الإعلامي، الذي لم يؤثر كثيرًا في تراجع شعبيته (وهو أمر سوف يطرح للنقاش في المستقبل من منظور كيف يمكن أن يبقى تأثير الإعلام محدودًا في حالات الغضب الشعبي)، كما استخدم ضده التخويف من أن ترشيحه سوف يؤثر على قدرة الحزب الجمهوري في الانتخابات المصاحبة لانتخابات الرئاسة للكونغرس وبعض حكام الولايات، مع ذلك فشلت كل التكتيكات.


استفاد ترامب من كل الغضب الذي أججته تلك السياسات السابقة، وكرجل غير سياسي، يستطيع أن يتبرأ من كل ذلك الفشل، فهو لم يكن عضوًا في حكومة، أو مشرعًا في الكونغرس، ولم يشارك في اتخاذ كل تلك القرارات «الخطأ»! ولكن السؤال هل يمكن له (في حال انتخابه) تحقيق ما وعد به؟ ذلك أمر مشكوك فيه، ففي كل الحملات الانتخابية شعارات الحملة الانتخابية ليست هي سياسات الحكم!


ظاهرة ترامب تضيف بعدًا آخر في الديمقراطيات الغربية المعاصرة، وليس في الولايات المتحدة فقط، وهي ما يمكن أن يسمى «المجتمعات المنقسمة»، فليس غريبًا أن يجتمع في كليفلاند (مكان اجتماع المندوبين الجمهوريين) أهل اليمين الأوروبيون، منهم رؤوس الدعوة البريطانية للخروج من النادي الأوروبي (الذي تحقق) ومنهم رؤساء أحزاب اليمين في بعض الدول الأوروبية، الجميع جاء إلى الاجتماع لإعطاء الدروس، أو درس التجربة الترامبية، للاستفادة منها في مجتمعه. في الوقت الذي يتوجه فيه ترامب إلى اليمين تتوجه كلينتون ورفيق بطاقتها الانتخابية تيم كاين إلى اليسار، وهي ظاهرة تؤكد المجتمعات المنقسمة، ودليل آخر على فشل في آليات الديمقراطيات الغربية كما وصلت إليه، التي أدت إلى تآكل الطبقة الوسطى وتراجع الأفكار الليبرالية العقلانية. فبريطانيا تتجه في السنوات القريبة، بسبب نتائج خروجها من أوروبا، إلى الانشطار، ربما خروج تاريخي لاسكوتلندا من المملكة المتحدة، كما يرجح وصول اليمين في انتخابات قادمة في فرنسا، بسبب فشل مركب، أمني واقتصادي! فهل العالم يتوجه إلى اللااستقرار؟ واضح أن بعض سبب عدم الاستقرار العالمي، ومن جملته تصاعد جرائم الكراهية في مدن الغرب وضمور الطبقة الوسطى، هو ما حدث ويحدث في منطقتنا، فالكثير من الظواهر التي وصفنا، أيقظتها أسراب الهاربين من الجحيم السوري إلى ما اعتقد أنه الملاذ في الغرب، أو الغارقون في البحر، في دليل على قنوطهم من أوطانهم! من عجائب التاريخ الإنساني أن حل مشكلات الغرب يبدأ بحل مشكلات الشرق الأوسط العميقة والمتشعبة، التي لعب فيها الغرب، إما من خلال التراخي أو سوء الفهم، أو كليهما، دورًا سرّع في آليات الإرهاب فوصلت إلى ما وصلت إليه تلك المجتمعات من خوف عصابي وعداء للآخر وانقسام على النفس! لقد ثبت أن العالم الذي نعيش هو عالم ما بعد العولمة الذي ترابطت فيه الأحداث والمصائر، وأثر بعضها في البعض الآخر، وحتى يفهم هذا الترابط سوف نظل في مرحلة اللااستقرار!

آخر الكلام:
ربما أكثر حدث يُمثل ضعف معسكر ترامب ظهر في خطاب زوجته «الثالثة» عارضة الأزياء السابقة ميلانيا، حيث قرأت خطابًا يشابه في كثير من مفرداته خطاب السيدة ميشيل زوجة أوباما، قبل سبع سنوات، كلمة بكلمة، مما دعا بعض وسائل الإعلام للتعليق بالقول: إن كان ترامب لا يحسن اختيار خطابات زوجته فكيف ستكون خياراته السياسية الكبرى؟!
&

&