&فهمي هويدي

نحتاج إلى تقصي حقائق ما جرى في محافظة المنيا، وأدى إلى تعدد الاشتباكات بين المسلمين والأقباط. لست صاحب الاقتراح لكني أؤيده، وأضم صوتي إلى صوت الأنبا بولا الذي دعا إليه. وكانت جريدة «الشروق» قد نشرت في عدد الثلاثاء ٢٦/٧ تقريرا عن صدى أحداث المنيا بمناسبة مناقشة الموضوع في لقاء البابا تواضروس الثاني مع أعضاء اللجنة الدينية في مجلس النواب. وكان اقتراح الأنبا بولا أسقف طنطا المسؤول عن صياغة قانوني الأحوال الشخصية وبناء الكنائس ضمن ما ذكر في هذا السياق. إذ ورد على لسانه قوله إن ما جرى في المنيا ينبغي أن تتولى لجنة تقصي الحقائق دراسته للتعرف على السبب الحقيقي وراء الاحتقان الذي أدى إلى توتير العلاقة بين المسلمين والأقباط وتفجيرها بين الحين والآخر. وهو ما أعتبره مدخلا صحيحا ورصينا للتعامل مع الملف، خصوصا أن وسائل الإعلام المصرية حفلت بسيل من التعليقات التي تناولت أعراض الداء. ولم تنل جذوره وأصوله العناية التي تستحقانها.

لي ثلاث ملاحظات على اقتراح الأنبا بولا، الأولى أنني أتمنى أن تشمل مهمة تقصي الحقائق محاولة توفير الإجابة عن أسئلة هي: هل الاحتقان مقصور على محافظة المنيا وحدها أم أن الظاهرة متكررة في محافظات أخرى؟ ثم، ما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك الاحتقان، هل هو التعصب الديني أم أنها الثأرات والصراعات القبلية والشخصية، وهل للدس والوقيعة دور في ذلك؟ أم أنها مجمل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الجميع، أم أن هناك أسبابا أخرى.

الملاحظة الثانية أن السعي ينبغي ألا يكتفي بمحاولة الإجابة عن السؤال «لماذا» على أهميته، لأنه من الأهمية بمكان أن يبذل جهدا للإجابة أيضا عن السؤال «من»؟ أعني أننا نريد أن نتعرف على الفاعل والمحرض، هل هو فرد أم مجموعة أم أفراد؟ وما هي هوياتهم؟ وإذا كانوا ينتمون إلى جماعات فإن جهدا ينبغي أن يتواصل لتحديد ماهية تلك الجماعات. وإذا كان الإعلام المصري قد دأب على وصف الفاعلين بأنهم متعصبون أو إرهابيون دون أي تحديد أو تخصيص، فإن ذلك ربما خدم الأجواء السياسية والصراعات الداخلية، إلا أنه لم يخدم الحقيقة، لأن العناوين الفضفاضة توزع التهم بالمجان وقد تضلل، فتصرف الانتباه عن الفاعلين وتثير الشبهات حول الأبرياء.

الملاحظة الثالثة تتلخص في أن تقصي الحقائق ينبغي أن يشمل كل الأطراف المعنية، لأن بين المسلمين متعصبين ومتشنجين حقا، لكن هؤلاء لهم نظائرهم بين الأقباط أيضا. ثم إنني لم أفهم الغمز في دور الشرطة التي كثيرا ما تتهم بالتراخي في القيام بما عليها، وهو ما أشك فيه. وإذا تصورنا من الناحية النظرية أن يكون ذلك موقف فرد فمن الظلم أن يعمم الأمر على الجهاز. ذلك أن الصراع الحاصل يحفز الشرطة لمحاصرة العنف واستئصال جذوره، وليس للتساهل معه أو تشجيعه.

لدي ملاحظة رابعة على الفكرة لا أستطيع أن أكتمها، ذلك أن تقصي الحقائق لا يحقق المراد منه بمجرد تشكيل لجنة أو عدة لجان من الخبراء والمختصين، لكنه أيضا بحاجة إلى بيئة سياسية ومجتمعية تشجع على ذلك وترحب بالنتائج أيا كانت. وفي بعض المجتمعات غير الديمقراطية فإن التشكيل ذاته يخضع لتدخلات السلطة وتحيزاتها، بما قد يسحب من رصيد الثقة في عملية التقصي المنشود. وإذا توافرت للجان التقصي ضمانات الاستقلال والحرية، فإن مصير تقاريرها يصبح محفوفا بالمخاطر التي يصبح التجاهل حدا أدنى لها. وذلك ليس استنتاجا ولكنه من دروس خبرتنا في مصر. إذ ليس غائبا عن الأذهان مصير محاولتي تقصي حقائق ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ أو مرحلة حكم المجلس العسكري في ٢٠١٢.. وقد شكلت لكل منهما لجنة رأسها أحد كبار القضاة، وضمت عددا من المتخصصين والخبراء المستقلين، ولكن التقريرين لم يوافقا الهوى السياسي فتم استبعادهما، وأعيدت صياغة «حقائق» المرحلتين على نحو جديد وافق الريح السياسية المستجدة، بحيث صار للمرحلتين تاريخان أحدهما أهلي مستقل والثاني حكومي «معدل». ولم يكن ذلك مسلكا استثنائيا لأن الغموض لا يزال يحيط بقائمة طويلة من الأحداث والعمليات الإرهابية التي تلاحقت بعد ذلك. وبقيت حقائقها خاضعة للصياغة الحكومية والأمنية، وهو ما تعلمنا منه أن لجان تقصي الحقائق لا تستطيع أن تؤدي مهمتها على النحو المرتجى إلا في ظل مناخ يضمن لها الاستقلال والحرية والنزاهة. وهي العناصر التي توافرت في بريطانيا مثلا لإصدار تقرير السير جون شيلكوت ومساعديه الذين تقصوا حقائق ملابسات اشتراك بريطانيا في غزو العراق. وهو ما استغرق سبع سنوات وتكلف نحو 15 مليون دولار.

لست أدعو إلى استبعاد خيار تقصي حقائق تجاذب النزاعات الطائفية بواسطة لجنة خاصة، لكني أذكر بأن ثمة شروطا لنجاح مهمتها ومن ثم التعويل على صدقية تقريرها.