&هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «رائحة الفقر»
&
سمير عطا الله

&
لكي تنزع عن نفسك الفضول في زيارة الهند، يجب أن تزورها مرة واحدة. وإذا كنت ترتعد من مشهد الفقر اللئيم، وتشعر بالضيق من روائح الطعام المسلوق في الشوارع، ومن منظر البقر المقدس هائمًا يفعل في الشوارع ما لا تفعله القطط إلا في الحياء والخفاء، وإذا كانت توترك أصوات الآلاف، وأصوات الأغاني (هندية طبعًا) المتصاعدة من كل مكان، وإذا كنت تمل أصوات الاستعطاء ولا تملّك، وإذا كانت ثيابك البسيطة تبديك هنا مثل مهراجا على ظهر فيل موشى بالذهب، وإذا كانت تُفزعك المياه الآسنة التي يستحم فيها هؤلاء السادة مع أطفالهم العراة - إذا، فإذن، سوف تكون تلك رحلتك الأخيرة أيضًا.
لكنني أتحدث عن هند ما قبل 50 عامًا، يوم كانت الجرذان تأكل مساعدات القمح في الموانئ قبل أن تصل إلى الناس، ويوم كان سكان البلاد الأسطورية نصف مليار نسمة، وليس مليارًا كما أصبحوا اليوم. ويوم كان الملايين من الناس يولدون في العراء ويعيشون في العراء ويقتاتون العراء.


لم أجرؤ على المشي طويلاً في شوارع بومباي. المتسولون جزء من بلاط الأرصفة السوداء. والشمس تطحن جلودهم إلى سواد. ولا فيء إلا في ساعات عابرة. ولكن المغني الفرنسي الشاعر شارل أنافور رأى في الشمس رحمة: «البؤس أقل عذابًا في الشمس». وقد فهمت معنى ذلك عندما وصلت ليلاً إلى ميامي بيتش، فلوريدا، ورأيت أعدادًا كثيرة من الذين بلا مأوى، يفترشون - بلا فراش - مداخل المباني التجارية. وقال السائق يشرح المسألة: إنهم يأتون إلى هنا من مدن أميركا الباردة، على الأقل يتمتعون بالدفء. فكر في هذه الحياة التي لا متعة فيها سوى درجة الحرارة، والباقي عمر بلا سقف ولا عنوان ولا أبا لك يسأم.
ذات مساء كنت أقف عند مدخل فندق «الواحة» في الدوحة حين التقيت رجلاً بريطانيًا فهمت منه أنه يعمل مع الأمم المتحدة في الهند. قلت له، ثمة شيء يحيرني دائمًا، كيف تحمي المطاعم نفسها من ملايين الجائعين. كان جوابه إنجليزيًا: «لا تنس أن الشرطي شبعان».


لعله كان يقصد، القانون. أرسى جواهر لال نهرو لتلك القارة المكتظة بالمتناقضات والتخلف والجهل، أسس دولة تحتكم إلى القانون وتحاول الدخول تحت سلطة العدل بعد قرون من الطبقية العنصرية التي لا مثيل لها في أي بلاد أخرى. والهند، التي نصفها اليوم طبقة متوسطة، هي هند نهرو. وهذا ما أخفق رفاقه من زعماء الاستقلال وقادة عدم الانحياز في تحقيقه. ذهبوا جميعًا إلى الديكتاتورية، غير واثقين في نضوج شعوبهم، بينما أعطى كل ثقته لشعبه، مقابل ثقة الشعب به. يا لها من معادلة.
إلى اللقاء.. &

&