فهمي هويدي


المصادفة وحدها وضعتنا أمام هذه المفارقة المحيرة. ذلك أن الصحف العربية الصادرة يوم الثلاثاء الماضي ٢٦/٧ نشرت بيان قمة نواكشوط الذي تحدث عن مركزية القضية الفلسطينية وتهديد الاحتلال الإسرائيلي للأمن القومي العربي، وفي ذات اليوم نشرت الصحف الإسرائيلية الخبر التالي: "وصف وزير الجيش الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان مصر بأنها الحليف الأكثر أهمية لإسرائيل والأكثر جدية في منطقة الشرق الأوسط والدول العربية". بيان القمة كان يخاطب الرأي العام العربي مستخدما شعار الستينيات التي راج فيها مصطلح قضية العرب المركزية. أما ليبرمان فقد كان يتحدث في جلسة استجواب بالكنيست، ردا على سؤال للنائب يؤيل حسون حول تأثير اتفاق المصالحة بين إسرائيل وتركيا على العلاقات بين الدولة العبرية ومصر. وفهمنا مما نشرته الصحف الثلاث "هاآرتس" و"معاريف" و"يديعوت أحرونوت" أن ليبرمان (أحد رموز النازية الصهيونية الذي دعا إلى قصف السد العالي لتأديب مصر) أكد لصاحب السؤال وأعضاء الكنيست أن العلاقات بين إسرائيل ومصر باتت من القوة والرسوخ بحيث لا يمكن أن تتأثر بأي اتفاق يعقد مع أي دولة ثالثة. الذين أعدوا بيان القمة اعتمدوا الصياغة التقليدية، وأطلقوها في الفراغ العربي وهم يعلمون أن أحدا لن يحاسبهم. فضلا عن أن الجماهير العربية لم تعد تأخذ مقررات القمة على محمل الجد، أما الوزير الإسرائيلي فقد كان يدلى بشهادته أمام البرلمان الذي يحاسبه على ما يقول.

هذا التناقض ليس جديدا تماما، والتباين في المواقف لم يعد مقصورا على خطاب الجامعة العربية ومجريات السياسة المصرية. فالظاهرة باتت عربية بامتياز. إذ باستثناء عدد محدود من الدول العربية، فإن جسور التواصل والتفاهم التي أقامتها بقية تلك الدول مع إسرائيل باتت تمتد حينا بعد حين. وانتقلت أخيرا من السر إلى العلن وإن جرى سترها بغلالات وأعذار مختلفة بعضها ساذج وفاضح. ومن نماذج الحيل الأخيرة قول من زار إسرائيل والتقى بعض مسؤوليها، ثم ادعاؤه أنه كان في فلسطين وأم المصلين فيها، ولم يزر إسرائيل!

صحيح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ما برح يتحدث عن اصطفاف إسرائيل إلى جانب ما أسماه دول "الاعتدال العربي"، منذ لاحت بوادر الإرهاب في المنطقة، إلا أننا لم نتوقع أن يتحول الطموح الإسرائيلي إلى واقع عربي ملموس. وأيا كانت العوامل الأخرى التي شجعت على ذلك التحول (من بينها التمدد الإيراني في العالم العربي) فالشاهد أننا صرنا إزاء واقع جديد اختلفت فيه قيم السياسة بقدر ما اختلفت خرائط الواقع. وإزاء ذلك فإن ذلك الواقع بات يتطلب تحريرا صريحا وشجاعا، ولئن كان ذلك مطلوبا في عموم العالم العربي، إلا أنه بات أكثر إلحاحا في مصر، التي هي الدولة الكبرى من حيث عدد السكان والوزن التاريخي على الأقل.

أدري أن كلام ليبرمان ينبغي أن يؤخذ بحذر، فنازيته معروفة وسجله الشخصي لا يشرف (وهو ما أشار إليه سلفه موشيه يعلون وزير الدفاع السابق الذي وصفه بأنه من زعماء العصابات). إلا أنه لم ينفرد بالحديث عن اعتبار مصر الحليف الأكثر أهمية وجدية بالنسبة لإسرائيل في المنطقة. فذلك المعنى صار متواترا في الخطاب السياسي الإسرائيلي بصياغات مختلفة (في شهر مارس الماضي قال سفير إسرائيل الأسبق بالقاهرة زئيفي مازل في حوار تلفزيوني إن مصر وإسرائيل أصبحا في سرير واحد!).

الحذر الواجب لا يحول دون الدعوة إلى تحرير العلاقة التي باتت ملتبسة بين القاهرة وتل أبيب. ليس فقط إعمالا لحقنا في المعرفة، وليس فقط لتبديد القلق والانزعاج الذي بات يساور جيلنا الذي عاصر زمن القضية المركزية والعدو الإستراتيجي، وليس فقط لتحرى حقيقة التحولات التي طرأت على العقيدة العسكرية في مصر، ولكن أيضا حفاظا على سلامة وعي وإدراك الأجيال الجديدة التي باتت معرضة للبلبلة والضياع. ولعلى لا أبالغ إذا قلت أن استشراء تلك الحالة لن يشوه تلك الأجيال فقط، ولكن تأثيره سيمتد إلى العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.

قبل أكثر من عشر سنوات (في عام ٢٠٠٥) حين زار إسرائيل أحد كتاب المسرح المصريين، قامت قيامة المثقفين آنذاك، وفصل الرجل من اتحاد الكتاب. أما حين زارها وزير الخارجية أخيرا والتقى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فإن ذلك لم يحدث صدى يذكر. بل تطوع نفر من المثقفين لامتداح الزيارة حتى اعتبرها أحدهم "خطوة رائعة". وحين تحدثت "هاآرتس" عن دراسة أوفير ونتر الباحث بجامعة تل أبيب التي كشف فيها عن التغيير الذي طرأ على مناهج التعليم في مصر معبرا عن التطبيع مع إسرائيل وممتدحا السلام معها، فإن الأمر بدا طبيعيا ومقبولا بين أغلب المثقفين والإعلاميين المصريين.

هذه القرائن مجرد نماذج تؤيد الدعوة إلى تحرير تلك العلاقة الملتبسة حفاظا على وعي الأجيال الجديدة. وما أتلقاه من رسائل يبعث بها بعض الوطنيين من الشباب والشابات يدل على أن بوادر التشوه حدثت بالفعل، وأننا لا نتحدث عن خطر لاحق، وإنما عن نذر فاجعة حاصلة ونذر إعصار مسموم يطرق أبوابنا.