&سالم حميد

تعززت هذا الأسبوع شكوك المراقبين للأحداث الأخيرة في تركيا بأن أردوغان يواصل استغلال المحاولة الانقلابية الفاشلة في اجتثاث المخالفين لطموحاته، من خلال القيام بتطهير قطاعات ومؤسسات مؤثرة في المجتمع التركي، وإخلاء المشهد من المعارضين، سواء كانوا من التيار العلماني في الجيش والقضاء أو من الجناح الإسلامي المنافس المتمثل في تيار فتح الله جولن. ولا تزال تداعيات المحاولة الانقلابية الأخيرة تتصدر اهتمام وسائل الإعلام، لكن موجة التعاطف مع نظام أردوغان ضد الانقلابيين بدأت تنحسر ليحل بدلاً منها الاستنكار والاستغراب تجاه مبالغة سلطة حزب «العدالة والتنمية» في القيام بعمليات اجتثاث وإقصاء منظمات طالت قطاعات مختلفة، ابتداء بالجيش الذي شهد عمليات اعتقالات وتسريح واستغناء بالجملة بلغت الآلاف، مروراً بمؤسسات القضاء والتعليم، وانتهاء بقطاع الإعلام الذي تعرض لموجة انتقامية واسعة وغير مسبوقة شملت اعتقال عشرات الصحفيين إلى جانب قيام السلطات بإغلاق 45 صحيفة، و16 قناة تلفزيونية و3 وكالات أنباء، و23 إذاعة، و29 دار نشر، و15 مجلة، بحسب إحصاءات تناقلتها مصادر إخبارية، وقوبلت هذه التداعيات بتحفظات أوروبية وتعليقات لاذعة، آخرها تعليق الخارجية الأميركية التي اعتبرت أن اعتقال المزيد من الصحفيين يعد جزءاً من توجه مثير للقلق ومحبط للنقاش العام، كما اعتبرت أن ما يجري في تركيا توجه مقلق «حيث تستخدم الهيئات الرسمية وهيئات إنفاذ القانون والهيئات القضائية في إحباط النقاش السياسي المشروع».

ومن الواضح أن عين أردوغان تنصب في الوقت الراهن على التهيئة لإنفاذ تعديلات دستورية جوهرية في الدستور التركي، بهدف منحه صلاحيات لا يتمتع بها حالياً بصفة قانونية، لكنه رغم ذلك يتحرك منذ فترة بشكل استباقي مخالف للدستور الذي يعتبر فيه موقع الرئاسة منصباً فخرياً، وهذا لا يتناسب مع طموحات أردوغان.

ويلاحظ أن القوى الناعمة التي دعمها أردوغان لتسويق طموحه ورسم شخصية تركيا الجديدة القديمة كان من ضمنها الدراما التركية التي قامت بإنتاج مسلسلات تعيد الاحتفاء بزمن الحريم والجواري، بدليل نموذج مسلسل «حريم السلطان» وما أنتج على شاكلته من أعمال درامية، والهدف إظهار مركزية صورة السلطان وإعادة تكريسها. ويبدو أن محاولة أردوغان الحثيثة لمحو ميراث تركيا العلمانية الحديثة التي أرساها المؤسس كمال أتاتورك كانت بحاجة إلى خطوات ومراحل طويلة، وأكثرها صرامة خطوة اجتثاث العناصر المعارضة لطموحاته. أما على مستوى المنافسين المحتملين داخل حزبه فإنه يقصيهم عن الواجهة بانتظام لكي يبقى النجم الأوحد، بدليل اختفاء أسماء مهمة كانت شريكة لأردوغان أبرزها عبدالله غول وأحمد داوود أوغلو.

صحيح أن الأتراك لا ينكرون ما تحقق من إنجازات اقتصادية عملت على تحقيق نسبة نمو خلقت فرص عمل، وحرّكت قطاع السياحة، كما سعى أردوغان لتجميد الصراع مع الأكراد لكي يتفرغ لمعركته الشخصية ويعمل على تنحية الأولويات الأمنية التي كانت تجعل أصوات جنرالات الجيش التركي هي الأعلى. لكنه قدم نفسه إلى الأتراك منذ صعود حزبه باعتباره المنقذ، لتحقيق زعامة خارج حدود بلاد الأناضول، لذلك فتحت إسطنبول ذراعيها للهاربين من قيادات «الإخوان» والمحكوم عليهم والناشطين في التنظيم الدولي وفي فروع الجماعة المنهارة.

ومنذ صعود حزب «العدالة والتنمية» كان كل همه التموضع في المناصب، مستخدماً المسحة الدينية الإسلاموية، فهي الغطاء الضروري لخطة بعث العثمانية الجديدة. وعبر الخطاب الإسلاموي وجد أردوغان فرصة لتقديم نفسه إلى العالمين العربي والإسلامي، مستثمراً حالة الانكسار والصراعات العربية وحاجة الجماهير العاطفية إلى شخصية الزعيم الذي يدغدغ مشاعرها، وذلك ما فعله أردوغان عندما ركب على موجة التضامن مع سكان غزة أثناء الحصار الإسرائيلي للقطاع، بينما نسي الناس أن العلاقات التركية الإسرائيلية الرسمية لم تنقطع بشكل نهائي، وأن الخلاف المؤقت بين الطرفين حدث لفترة وجيزة بشأن تعويض الضحايا الأتراك الذين سقطوا على متن السفينة مرمرة، بينما لم يتوقف التنسيق العسكري والتواصل التركي الإسرائيلي حتى اليوم.