يوسف مكي&

&أدرك التيار الإسلامي التركي أن معركة العسكر معه لن تكون سهلة، إذا تمكن هذا التيار من جعل الشارع يقف إلى جانبه

لا شك أن الرفض الأوروبي المتكرر لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، جعل كثيرا من الأتراك يرون في هذا الرفض موقفا استعلائيا، وأرجعوه إلى هوية تركيا الإسلامية، باعتبارها السبب الرئيس لحرمانهم من الحوافز الاقتصادية التي يتيحها الارتباط بالقارة الأوروبية.

معضلة العلاقة بين تركيا والغرب، تكمن في كونها عانت ولا تزال من تركيبة سياسية معقدة، فالحريصون على علمانية الدولة هم المؤسسة العسكرية المعادية بحكم موقعها في السلم الاجتماعي، للنهج السياسي السائد بالغرب. وهذه المؤسسة هي الضامنة لعلمانية الدستور. وهي المستهدفة بالاتهام بارتكاب خروقات واسعة لحقوق الإنسان.

ويبدو أن إصلاح هذه المعادلة من الصعوبة بمكان، إن لم يكن مستحيلا. فالاتحاد الأوروبي، يريد نظاما تركيا يتماشى مع سياساته، ويلتزم بمعاييره للصواب والخطأ. وكان العسكر لحقب طويلة هم المؤتمنون على جانب واحد من المعادلة، المتمثل في رعاية علمانية الدولة، لكنهم يقودون الانقلابات ويطيحون بالحكومات المنتخبة. إن حكومات الغرب مع الديمقراطية شرط اتساقها مع سياساتهم، ولذلك يجدون أنفسهم مجبرين على تأييد الانقلابات العسكرية، والأمثلة في هذا السياق كثيرة.

مع حكومة إردوغان، شهدت العلاقات التركية – الإسرائيلية جملة من الانهيارات، ففي 29 يناير 2009 غادر إردوغان مؤتمر دافوس بعد مشاحنة كلامية مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، بشأن الحرب على غزة. وأوقفت المناورات المشتركة، بين تركيا وإسرائيل. ودعمت تركيا محاولات فك الحصار عن قطاع غزة.

يدرك التيار الإسلامي التركي طبيعة التحول في المزاج السياسي في بلاده، ويعي تماما أن بقاءه طويلا في السلطة، لن يكون مرتبطا بحصده أغلبية المقاعد في البرلمان، أو من خلال احتكام إلى القانون، ولكن من خلال الاستناد إلى الشارع ذاته. إنه يدرك أن العسكر لن تكون معركتهم مع التيار الإسلامي سهلة، إذا تمكن هذا التيار من جعل الشارع يقف إلى جانبه.

إن أي خطوة تقدم عليها حكومة إردوغان تجاه تقوية علاقاتها بالجنوب، ستكون رصيدا مضافا لها داخليا. فقد اكتشف الأتراك أن الأوروبيين ليسوا على استعداد لقبولهم عضوا في قارتهم. وطالما أفصحوا عن ذلك، ورفضوا أن يجعلوا من تركيا عمقا أوروبيا، فليس لها إلا أن تعود إلى مجالها الحيوي الذي استمدت منه حضورها التاريخي، المتمثل في البلدان العربية والإسلامية.

تفسر هذه القراءة حماس إردوغان للربيع العربي الذي حمل الإخوان المسلمين إلى السلطة في تونس ومصر، وكاد أن يوصلهم إليها في سورية وليبيا واليمن. إنه الحلم باستعادة مجد السلطنة العثمانية، ولكن بقيادة الإخوان المسلمين هذه المرة.

كان انطلاق ما بات معروفا بالربيع العربي، بداية تغير جوهري في السياسة التركية، من مشاكل صفر، وتحسين العلاقات مع جميع جيرانها جنوبا وشرقا، إلى الانخراط بقوة في الحراك الإخواني بالدول العربية، على أمل القطف السريع لثمار هذا الحراك.

لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن. فقد سقط نظام الإخوان المسلمين في مصر، وفشلت حركة النهضة في حصد أغلبية المقاعد، في الانتخابات الثانية بعد الثورة. والأغرب أن من نجح كان الجناح التجديدي في البورقيبية، الممثل في "النداء التونسية". وفي اليمن تعثر المشروع السياسي، وعاد صالح مع الحوثيين إلى الواجهة. وضربت الحكومة الشرعية. وتعطل الحوار الوطني. ولا تزال الأوضاع مرتبكة.

وفي سورية هناك ما يشبه الحرب العالمية، حيث الجميع موجود في الخنادق. والبلد يتجه نحو المجهول. ورهانات تركيا على حسم سريع، يوصل الإخوان إلى السلطة باتت أقرب إلى المستحيل. وفي ليبيا تحولت البلاد إلى مركز للفوضى، وملاذ للإرهاب والإرهابيين.

والنتيجة أن تركيا التي راهنت على الجنوب، وأدارت ظهرها للغرب، وجدت نفسها في مأزق حقيقي. فعلاقتها بالغرب ليست في وضع جيد. والصحف الأميركية، والغربية على العموم، تحمل كل يوم اتهامات جديدة لإردوغان.

بل إن الرئيس الأميركي باراك أوباما، لم يتردد عن وصف إردوغان بالديكتاتور. وميركل تصفه بالمستبد، وتعيد التذكير بحملات الإبادة التركية بحق الأرمن.

ومن جهة أخرى، فإن محاولة تركيا التقرب من روسيا، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية وإستراتيجية معها، اصطدمت بالخلاف حول الموقف من سورية، وانتهت بأزمة حادة وقطيعة بين البلدين، إثر إسقاط تركيا طائرة مقاتلة روسية قرب حدودها الجنوبية.

والاقتصاد التركي الذي نهض به إردوغان في مراحله الأولى، عانى من مشاكل حادة بعد أحداث سورية، التي تشكل محطة ترانزيت رئيسية للصادرات التركية، المتجهة نحو الجنوب، إلى الأردن والمملكة ودول مجلس التعاون الخليجي. والأزمة الكردية التي خبت بفعل التنسيق الأمني السوري- التركي- الإيراني، عادت بقوة للبروز، مهددة من خلال عملياتها الكثيفة، أمن تركيا واستقرارها.

لقد أدرك إردوغان صعوبة الأوضاع التي تمر بها بلاده. وقام قبل أيام قليلة من الانقلاب باستدارة مفاجئة. طبع العلاقات مع إسرائيل. واعتذر من بوتين على إسقاط الطائرة الروسية المقاتلة، وطالب بإعادة العلاقات الطبيعية مع روسيا. وأصدر تصريحات إيجابية تجاه طهران، معللا النفس على تحقيق زخم جديد في العلاقة معها. كما أبان عن الرغبة في تطبيع العلاقة مع مصر. وأبدى مرونة غير مسبوقة تجاه النظام في سورية. وبدا أن تحولا دراماتيكيا قد أخذ مكانه في السياسة التركية. وجاءت عاصفة الانقلاب في محطة مصيرية من محطات الانتقال في السياسة التركية الخارجية.

فشل الانقلاب العسكري الذي وقع في تركيا، ربما يكون مؤشرا في حد ذاته على أن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تركيا، وأن توازنات القوة لمكونات النظام التركي، بشقية العسكري والمدني، قد اختلفت كثيرا عما كانت عليه.

لقد بدا واضحا تراجع نفوذ المؤسسة العسكرية التي أنيط بها حماية النظام العلماني. ولم يعد بمقدور هذه المؤسسة أن تفرض أمرا واقعا، مغايرا لحقائق القوة على الأرض.