&عادل درويش&&&

عقب مداخلة لي عن أن التشدد الليبرالي والأصولي وجهان لعملة واحدة، طلب أصدقاء التعليق على قرار اتحاد المحامين الأميركيين بتحريم استخدام تعبيرات عادية في اللغة اليومية على سبيل التدليل، كـ«honey» (اللغة العربية «يا حبيبي» كتطييب خاطر لا علاقة عاطفية)، واعتبارها مخالفة جنائية تعرض للشطب من جداول النقابة، أي قطع العيش. تزامن القرار الأميركي مع تناول المعلقين لتصريحات مفتي (بالتعيين الذاتي لا بالدراسة الأكاديمية) الحركات الإسلامية السياسية بتكفير العالم المصري الراحل حامل جائزة نوبل الدكتور أحمد زويل. جادل الزميلان عبد الرحمن الراشد، ومشاري الذايدي، بأن الكلمات الصادرة عن أمثال هؤلاء خطوة تمهيد للإرهاب الداعشي.

نظريات التحريم والتكفير تخلق بيئة تنمو فيها جذور التطرف وتهندس ماكينة مراحل تجهيز المنتج النهائي: روبوت آدمي بالحزام الناسف يصيح بأنه «يجاهد من أجل المسلمين».

كانت مداخلتي قد قارنت تصريحات التكفير من الإسلاميين بالإرهاب الفكري للتيارات الليبرالية اليسارية البريطانية، لإرغامنا على استبدال تعبيرات لغوية عمرها آلاف السنين. يتهمون من يخالفهم بالمسيوجينية (misogyny أي معاداة المرأة)، أو الإسلاموفوبيا أو العنصرية، مثالاً لا حصرًا.

ولا نوازن بين «الإخوان» أو «داعش»، وتيارات كـ«النسوية» (feminism) أو «التعددية الثقافية» (multi - culturalism)، لكن المقصود أن التطرف لا يقتصر على ثقافة أو منطقة جغرافية أو على آيديولوجيا بعينها. طريقة تسلسل التحليل العقلي والجدلي لأي تيار يمنح نفسه التفوق على الآخرين تؤدي إلى ذهنية فرض لغة وتعريفات وأساليب عمل تنتهي غالبًا إلى الشمولية.

عالم رسمه جورج أورويل في رواية «1984»، وابتكار (newspeak) أو لغة المساواة الجديدة لتسوية طريقة تفكير المجتمع شموليًا.

سواء كان اليسار الأوروبي، بتفرعاته الاشتراكية والنسوية، أو اليمين العنصري، أو النازية؛ هتلرية أو جديدة، أو الحركات الفاشية الدينية، كالإخوانية القطبية وتفرعاتها الداعشية القاعدية.. إذا فحصت تعبيراتها تجد تشابهًا في هدف المضمون.

رأينا فاشية دينية تحرم لمس خضراوات أو حتى استخدام ألفاظ معينة، لأن فيها «إيحاءات جنسية» أو تشبهًا بالكفار، وتفتي بأن التفوق العلمي زندقة.

بينما تتجلى فاشية الليبرالية اليسارية لغويًا، وقد سبق اليسار البريطاني اتحاد المحامين الأميركيين إليها قبل 30 عامًا في حملة على كتب الأطفال وأغانيهم. منعوا أغنية أطفال قديمة «أعطنا الصوف أيها الحمل الأسود»، وتحملت المدارس تكلفة الاستبدال بالسبورة (اللوحة السوداء بالإنجليزية) اللوحة البيضاء، لأن كلمة سوداء لها «إيحاءات عنصرية» (لم يشتكِ السود، وإنما تزعّم الحملة اليساريون من أبناء الأثرياء، وكلهم خريجو المدارس الخاصة وأكسفورد وكمبردج). استبدلوا بتعبير ناظرة المدرسة وناظر المدرسة «رأس التدريس»، بلا تذكير أو تأنيث، وإصرار «بي بي سي» على كلمة ممثل (actor) للجنسين، وإلغاء ممثلة (actress)، (المضحك تقاريرهم عند منح جوائز الأوسكار لأفضل ممثلة وأفضل ممثل).

كاهنات معبد الوثنية النسوية تستفزهن كلمة «رجل» (man)، فحذفوها من رئيس مجلس الإدارة (chairman)، ليصبح «كرسيًا» (chair) بلا رجل، ويترأس حضرة «الكرسي» مؤتمر الجمعية.

في رواية أورويل «1984»، يعمل البطل ونستون سميث في سجلات وزارة «الحقيقة» للتأكد من مطابقة تاريخ البلاد لمواقف الحكومة عند تغيير سياستها بتغيير أرشيف الجريدة الرسمية. إحراق أي أعداد بها أي تناقض مع السياسة الراهنة وإعادة إصدار العدد بالتاريخ نفسه للسجلات (حتى لو كان قبل مائتي عام) بتعديل الفقرات المناقضة للسياسة الحالية (رغم أنها كانت تتسق وموقف الحكومة يوم إصدار العدد). الهدف تطويع الوعي القومي كعجينة الصلصال، وفق إرادة النظام الحاكم، فيؤمن الناس بلا مناقشة بأن الوضع العام، كما أراده النظام، كان نفسه أمس وسيكون عليه غدًا.

استمرار تغيير أرشيف التاريخ مع كل تغير في سياسة الحكومة يضيع للأبد ما هو حقيقي وما هو مزيف. قول أورويل الخالد: «من يسيطر على الماضي يتحكم في المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر، يسيطر على الماضي».

تغيير أحداث التاريخ للاستحواذ على الذاكرة الجماعية وتطويعها يستلزم استبدال مفردات اللغة بحجج شتى، كالمساواة الجنسية أو مراعاة الحساسية الدينية أو التصحيح السياسي (رقابة على حرية التعبير). تغيير المفردات لتغيير هوية الأفراد والجماعات، فاللغة أهم أدوات التفكير البشري، توظفها الآيديولوجيات الشمولية عند السيطرة.

«داعش» و«طالبان» قبله يهدمان آثار حضارات ماتت، بينما منظروهما (مفكرو «الإخوان») يستبدلون مفردات اللغة لتغيير هوية المجتمعات، كما فعل النازي، وقلده سيد قطب بتكفير المجتمع وتغيير الهوية. وبلا تغيير الهوية يصعب استلاب الفرد ذهنيًا لإعلاء الولاء للآيديولوجيا حتى الموت قبل الانتماء للأسرة والوطن. الفاشية الدينية تتصيد الباحثين عن هوية، ومثل ونستون سميث، تعيد تزييف التاريخ باستخدام أحاديث موضوعة لتفسير وقائع لم توجد إلا حديثًا، وتستبدل في الذاكرة هوية أخرى، لا تتعرف على أي تفسير للدين يخالف التفسير القطبي الداعشي.

حيل لا تقتصر على الآيديولوجيات الفاشية والأنظمة الشمولية، بل تجدها تتسربل بعباءات الليبرالية والتقدمية.

في فقرة إذاعية عن حراسة رؤساء الوزراء ولقاء مع شرطي اسكوتلانديارد متقاعد، كان في حراسة رئيس الوزراء هارولد ويلسون (1964 - 1968)، ذكرت المذيعة أنه كان دائمًا «على بعد متر واحد من رئيس الحكومة». لم يوجد شخص واحد في بريطانيا وقتها يستخدم «المتر» للقياس، وإنما الياردة والبوصة. التفكير الجماعي لمحرري «بي بي سي» هو الانتماء للاتحاد الأوروبي، والإيحاء للذاكرة الجماعية بأن المقياس الأوروبي الموحد (بالأمتار) كان هو الدائم، حتى قبل ظهور الاتحاد الأوروبي (1993) بثلاثة عقود.

الأنظمة الشمولية الأوتوقراطية تلجأ لتغيير أسماء الشوارع والميادين والأماكن العامة واستبدال الرموز التاريخية.

في زيارتي للإسكندرية بعد سنوات من مغادرتها تعذر توجيه سائقي التاكسي، فقد استبدلت أسماء الشوارع بأخرى، قد تكون لأبطال في بلدانهم، لكن لا تربطهم علاقة بالمصريين.

تزامن ذلك مع تغيير النظام الناصري للهوية وإلغاء اسم «مصر» لثلاثة عشر عامًا، استبدل به الجمهورية العربية المتحدة، ولم يعاود اسم «مصر» الظهور إلا في 1971، وازداد تشويش الهوية بإضافة كلمتي «جمهورية» و«عربية».. فأنور السادات كان يخطط لحرب مع إسرائيل يجر إليها بلدانًا، عربية بعرقية أهلها، وأخرى عربية بالآيديولوجيا السياسية. «شيزوفرانيا الهوية» كانت الثغرة التي نفذ منها «الإخوان» لاصطياد ذاكرة وأذهان المصريين؛ أفرادًا، فجماعات، فجماهير.

وما يبدو تغييرًا بريئًا لمفردات لغوية «لتجنب إثارة الحساسيات» كمبادرة اتحاد المحامين الأميركيين، قد يكون قمة جبل ثلج عائم، قد تتسبب في كارثة تفوق غرق الباخرة «تيتانيك».

&

&