&عبدالرحمن الطريري&

ينسب لأحد النحويين قوله أموت وفي نفسي شيء من حتى، في إشارة إلى ولعه واهتمامه بكلمة حتى، ومعرفة أسرارها، حتى أنه طوال عمره يبحث ويستقصي قيمتها النحوية وتأثيرها في السياق أو السياقات التي ترد فيها. أنا وغيري من الكتاب يعنينا الإعلام ويهمنا أمره في المحتوى والأسلوب، وقد كتبت عدة مقالات بشأن الإعلام لأهميته في صياغة العقول وطريقة التفكير، إضافة إلى بناء المشاعر، سواء كانت إيجابية أو سلبية إزاء كثير من القضايا والمواضيع، محلية، أو دولية، سياسية، أو اقتصادية، اجتماعية أو دينية، ولذا عدت للكتابة مرة أخرى، ذلك أن اختيار الكلمة أو الفاصلة، والنقطة، و واو العطف له معناه ودلالته، وقد يغير المعنى بصورة كاملة. وهذا ينطبق على الحركة، أو الإيماءة، والسلوك في البرامج والأفلام، ولا يمكن أن تتوقف الكتابة عن الإعلام، وقد أعود مرة أخرى.

&

تستوقف المرء عناوين إعلامية، سواء في الصحافة، أو القنوات الفضائية، أو الإذاعات، والسبب غرابة العنوان وتناقضه الداخلي، حتى أن المراقب يتساءل هل الوسيلة الإعلامية هي التي صاغت العنوان، أم أن دورها اقتصر على النقل الحرفي من وكالات الأنباء دون تأمل، واكتشاف التناقض؟ في عدد من الصحف قرأت العنوان التالي: "مداهمات بغرب ألمانيا لملاحقة متطرفين مشتبه بهم" من يقرأ العنوان يترسخ في ذهنه أن من تمت مطاردتهم متطرفون، وينطبق عليهم هذا الوصف، لكن من يكمل العنوان يحتار في المعنى المقصود، حين يقرأ مشتبه بهم، إذ يفهم أنه مشتبه بهم بالتطرف وليس من المؤكد، وفي هذه الحالة يفترض أن يكون العنوان "مداهمات بغرب ألمانيا لمشتبه بهم في التطرف". في مثل هذه الصياغة يستقيم المعنى، أما المعنى الذي نشر يؤكد التطرف في حق المطاردين لكن هناك اشتباه في ارتكابهم جرما ما.

&

عنوان آخر يحتاج للتأمل "مخالفة قطع الإشارة تصل إلى ستة آلاف ريال"، فالقراءة السريعة للعنوان قد تحوي أنها ستة آلاف في كل الحالات إلا أن المعنى الذي فهمته تعني أنها قد تراوح بين ريال وستة آلاف والمبلغ يعتمد على تقدير الجهة المعنية وهي في هذه الحالة المرور.

&

أنا أدرك أن الإعلام في جميع وسائطه يعتمد على اختيار العنوان الجذاب المثير للانتباه لكن الأمر يختلف من موضوع إلى آخر، فدقة العنوان في بعض المواضيع لازمة، حتى لا يكون المعنى الذي يترسخ في الذهن خلاف ما قصد، فعنوان تصل إلى ستة آلاف لا يتضمن معنى الردع الذي يجب أن يصل للجمهور لارتفاع المبلغ على افتراض ذلك، وهذا خلاف الحقيقة. نقرأ كثيرا عناوين تتضمن التطرف الإسلامي، والإرهاب الإسلامي، حتى أصبحت هذه العبارات سارية وشبه طبيعية على الألسنة، وفي الكتابات، وكأننا نسلم بها كلها كحقائق.

&

المحتوى في بعض إعلامنا يفتقد الاستبصار في دقة المعلومة وسلامتها، فما يتعلق على سبيل المثال لا الحصر بالبطالة، أو دخل الفرد في المجتمع لا نجد الدقة ممن يتناول الموضوع، حتى لو كانت الجهة المعنية بالموضوع، وقد يكون السبب افتقاد المعلومة، ولذا تعطى المعلومة كيفما اتفق، أو افتقاد خاصية الدقة الشخصية، أو عدم توافر الآلية المناسبة للوصول للمعلومة.

&

آخر ما قرأت في إحدى الصحف «منقولا عن وكالات أنباء» ما نسب إلى شون ماكفارلاند قائد قوات التحالف الأمريكي الجنسية من أن التحالف قتل45 ألف "داعشي". استوقفني الرقم الكبير وتساءلت هل هذا جيش دولة، أم تنظيم، وإذا كان من تم قتلهم بهذا العدد فكم تبقى حتى الآن؟! دول كثيرة تملك إمكانات هائلة، ومع ذلك لم يصل تعداد جيشها لسنوات طويلة إلى هذا العدد رغم أنها تواجه تحديات ضخمة، ويكثر الطامعون فيها. فهل ما صرح به الجنرال الأمريكي حقيقة، أم رفع معنويات وتطمين لشركائه في التحالف الذي تقوده بلاده لاستمرار استثمار محاربة "داعش" اقتصاديا وسياسيا لتستمر مبيعات السلاح.

&

الأثر الذي تحدثه وسائل الإعلام يقتضي عناية فائقة من الكاتب، والمحرر، ورئيس التحرير ولا يكتفى بالنقل من وكالات الأنباء، أو من مصادر الإعلام الأخرى، حتى نضمن أن تكون الآثار إيجابية وإن لم تكن إيجابية نتجنب الآثار السلبية.