&إياد أبو شقرا&&

التحرك العسكري المفاجئ لنظام بشار الأسد بالأمس في مدينة الحسكة بشمال شرقي سوريا جاء لافتًا، سواءً من حيث الاستهداف أو التوقيت. إذ هاجم طيران النظام مواقع الميليشيات الكردية في المدينة ومحيطها، وجاء الهجوم بينما تظهر مؤشرات من هنا وهناك إلى تبريد لأجواء التوتر بين تركيا وإيران، وبالأخص، بعد لقاءات محمد جواد ظريف خلال زيارته الأخيرة لأنقرة.

بديهي أن مشروع «كردستان الكبرى»، بعكس السكوت الضمني الأميركي، لا يلقى قبولاً من الجانبين التركي والإيراني بل لعله يشكل نقطة التلاقي الأهم بينهما. وفي المقابل، صدر عن الساسة الأتراك منذ إجهاض «المحاولة الانقلابية» كلامٌ ملتبس إزاء موقف أنقرة من نظام الأسد قد يفسّر على أنه رسائل مبطّنة موجهة إلى عدة أطراف فاعلة في الوضع الإقليمي.

وفي هذه الأثناء، تسير قُدما في العراق التحضيرات لمعركة «تحرير» الموصل من «داعش»، وسط جدل حول دور كل من البيشمركة الكردية و«الحشد الشعبي» الشيعي في الهجوم المرتقب على المدينة التي تُعدّ أكبر معاقل العرب السنّة في البلاد. وفي حين يشدد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على ما يعتبره «حق» الميليشيا الشيعية بالمشاركة في العملية على الرغم من سوابقها الطائفية في عدة مواضع، تصدر عن القادة الأكراد تصريحات، أيضًا، عن «حق» الميليشيا الكردية بالاحتفاظ بكل أرض تحرّرها بصرف النظر عن طبيعتها السكانية!

في الحقيقة لا دليل دامغًا على أن جورج بوش الابن كان يدرك تمامًا تداعيات إسقاط حجر «الدومينو» الشرق أوسطي الأول عندما غزا العراق، رغم نظريات «الفوضى المنظمة» التي روّج لها في واشنطن داخل مطابخ «المحافظين الجدد». والشيء نفسه ينطبق على إجراءات بول بريمر «الاجتثاثية» و«الطبخة» التي أسهمت في إعدادها عدة جهات و«لوبيات» ذات أهداف متباينة.. تقاطعت مصالحها مرحليًا عند إسقاط نظام صدام حسين وتدمير بنية عراق ما بين 1920 و2003.

ولكن ما نراه في كل من سوريا والعراق حاليًا يسقط أي تبرير للجهل أو خطأ الحسابات. ففي السياسات العليا للدول الكبرى تجاه منطقة من أخطر مناطق العالم وأكثرها حساسية، قد يحصل سوء فهم عابر في مكان أو اختلال في التنفيذ في مكان آخر، لكن يستحيل أن يستمر مسار ما طوال 13 سنة من دون مراجعة أو تقييم.

اليوم، مع ما تبقى من رئاسة باراك أوباما، نحن أمام حالة عراقية مختلفة تمامًا عن عراق ما قبل 2003. إننا أمام «كيانين» شيعي وكردي شبه متكاملين، الأول مرتبط ارتباطًا عضويًا بمخطّط الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط، والثاني بات نواة «دولة قومية» مستقلة واقعيًا. وفي المقابل، تراجع موقع المكوّنات الأخرى، وعلى رأسها المكوّن العربي السنّي الذي كان بين 1920 و2003 يشكل النخبة الحاكمة للبلاد قبل تهميشه وتخوينه ومطاردته، بدءًا بقوانين «الاجتثاث» الأميركية وانتهاء بتهم التعاطف مع «القاعدة» و«داعش» الموحَى بها إيرانيًا. وهذا، ناهيك بالأقليات الدينية والعرقية التي – غالبًا، مثل كل الأقليات – تدفع الثمن الأعلى للفتن والحروب الأهلية.

وبالتالي، فإن الصراع، بل قُل التناهش، بين طائفيي المخطّط الإيراني وانفصاليي الحلم القومي الكردي يبدو هذه الأيام ليس فقط تناهشًا ضاريًا على بقايا «الفريسة» السنّيّة، بل أقرب إلى إطلاق رصاصة الرحمة على عراق حقيقي واحد موحّد. ولئن كان بعض غلاة القوميين من أبناء العراق قد أساءوا – بقصد أو من دون قصد – إلى مفهوم العروبة الحضارية المتسامحة، فإن ما ينزلق إليه العراق راهنًا، في عصر صعود «البديلين» الطائفي والعرقي، ومع العد التنازلي لمعركة «تحرير» الموصل، أخطر وأشدّ تعصبًا وعدوانية.

في سوريا أيضًا نحن أمام «سيناريو» يستحيل أن يكون قد تحقّق بمحض المصادفة. يستحيل أن يكون تكامل بالصورة التدميرية التفجيرية التي نشهد. ولمَن ما زالوا يتذكّرون، فإن النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد، و«بعثه» غير السنّي، كان أحد كبار المستفيدين من ضرب حكم صدام حسين و«بعثه» السنّي، كما كان حليفًا لطهران منذ الحرب العراقية – الإيرانية الأولى. وكانت مساهمة الأسد الأب في حرب طرد صدام من الكويت قد كفلت له مكافأة مُجزية هي إعادة إطلاق يده في لبنان حيث كان يتولى دور «الحاضنة» لـ«حزب الله»؛ نبتة إيران الطائفية في المنطقة.

وبعد الغزو الأميركي للعراق، لعب النظام السوري دورًا أساسيا في اللعبة الإيرانية الهادفة إلى التعجيل بخروج الأميركيين بعدما أنجزوا لطهران مهمة التخلّص من عدوها الإقليمي، أي نظام صدام. وفي صميم هذا الدور كان تسهيل نظام الأسد تدفّق الجماعات «القاعدية» وغيرها من الجماعات المتطرّفة عبر الحدود من سوريا إلى العراق لمناوشة القوات الأميركية بهدف الضغط على واشنطن لسحبها، وتسليم العراق إلى إيران على طبق من ذهب. ونجحت اللعبة، وأمسكت إيران بكل مفاصل السياسة العراقية بهمة «رجلها» نوري المالكي، بينما فُرض على المكوّن السنّي المغلوب على أمره العيش بين نارين: نار التعصّب والهيمنة الإيرانية ونار التطرّف «القاعدي» ثم «الداعشي»، مع كل ما يلحق بهما من تهجير وتشريد.

وعندما، انتفض الشعب السوري في مارس (آذار) 2011. ما كان مستغربا أن تهبّ إيران لنجدة النظام الأسدي، لكن المفارقة أن واشنطن برّرت في عهد أوباما رفضها التدخل في سوريا لإنقاذ الشعب من نظام دأبت على وضعه في قوائم «دعم الإرهاب» بأنها لا تريد تكرار خطأ التدخل في العراق. مع العلم، أن رفضها التدخل يشكل تثبيت نتائج «خطأ» سياسة بوش في العراق، وليس العكس.

وإمعانًا في الخطأ، وسّعت واشنطن دائرة العمل على وأد الانتفاضة الشعبية السورية. إذ حرّكت الورقة الانفصالية الكردية، وخذلت تركيا دافعة إياها دفعًا إلى الاستسلام لرؤية محور طهران – موسكو، من منطلق حرص أوباما على الاتفاق النووي مع طهران.

الأنظار اليوم كلها متّجهة إلى الأكراد، الذين يسعون إلى الوحدة عبر تفجير كيانات المنطقة الحالية وتقسيمها.. وعلى واشنطن إمّا التحرك أو انتظار التفجير.

&&