&خالد عمر بن ققه

الحالة السورية الراهنة فى دمويتها وبشاعتها ـ وهى بالطبع أكبر من حالة، ومن مواقع، ومن حقيقة مطلقة ـ تتجاوز فى جانبها الميداني، حيث القتل غير المبرر، النظريات الكبرى للصراع، وإن كانت تؤسس لتغيرات منتظرة فى العلاقات الدولية، مرتبطة بالأساس بمدى حل المشكلات الداخلية لدول الجوار على حساب سوريا.

سوريا اليوم فى دمائها ودموعها وآلامها المتواصلة، تجذب إليها بفُجْر الفعل وفُحْش الخطاب السياسى من السلطة، ومن المعارضة، ومن الدول الكبري، ومن أصدقائها وأعدائها، كل الخصوم والأعداء ليتصالحوا على أرضها، بما لا يتفق مع طبيعة العلاقات الدولية ولا حركة مسار التاريخ، ناهيك عن أنه يشكل تحالفا غير طبيعي، سيؤدى فى النهاية إلى ولادة غير شرعية لاتفاقات منتظرة ليس على حساب سوريا فقط، وإنما ثمن يدفعه العرب. ونتيجة لتصالح القوى الدولية هناك إلى حين،عجز المراقبون عن توصيف الظاهرة السورية رغم وضوحها من ناحية الفعل الإجرامي، وهو مانراه هذه الأيام فى حلب، حيث تأخذ رهينة لأطراف عدة، منها ماهو محلى مثل:الجيش العربى السورى والفصائل المسلحة من قوى الإرهاب والمعارضة، ومنها ما هو خارجى ودولى مثل: الطيران الروسى، والقوات البرية الإيرانية والمليشيات العراقية واللبنانية المساندة للنظام السورى، ناهيك عن الدعم الخارجى لاستمرار هذه الحرب من الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، ودول عربية لا تخفى دعمها للمعارضة المعتدلة، كما تسميها مع الشريك الأمريكى. تبدو سوريا وحدها المتضررة من الحرب الراهنة ـ تريد دولا وقوى معادية أن تعمّر طويلاً ـ وهى حرب أهلية بإشراف دولى من غير المتوقع أن تضع أوزارها إلا بهزيمة أحد الطرفين، ولأن هذه الحرب تشارك فيها عدة أطراف تتقاطع وتتناقض وتتعارض مصالحها، فإن توقفها مرتبط بهزيمة أيديولوجيات وسياسات كبري، أى هزيمة مشاريع،سواء أكانت ذات طبيعة توسعية ـ استعمارية، أو كانت رسم خرائط جديدة للدول الإسلامية بحيث تستهلك ما تنتجه من إرهاب وأفكار متطرفة حتى لو كانت بدعم ورعاية وتوجيه خارجي، أو كانت حلا مؤقتا لأنظمة آئلة للسقوط فى المنطقة.

سوريا متضررة من الحرب بشكل مباشر ـ كما ذكرت آنفا ـ لكن العرب أيضا متضررون فى الوقت نفسه، وإن كانوا بنسب متفاوتة، سواء من خلال الاختلاف البيِّن على المستوى الرسمى من تلك الحرب، لدرجة التحالف مع أعداء الأمس القريب، أو عبر توتر شبكة العلاقات الاجتماعية والتغير فى منظومة القيم من ذلك «نكاح الجهاد»، وسيحل بهم مزيد من التيه والضياع فى المستقبل، حين تعم الحرب بفعلها الدموى فى كل البلاد العربية.

سوريا اليوم تشهد على أرضها اليوم ميلاد نمط جديد من العلاقات الدولية، يشى بدخولنا حقبة جديدة تستنجد بماضى الإنسانية فى رحلتها الكبرى للبحث عن فضاء إيمانى يريحها من عبء التساؤلات الكبرى المتعلقة بالمصير، ويتمثّل فى إزالة الحواجر والحدود، ليس فقط على مستوى المنتج البشرى للنصوص والقوانين والضوابط السياسية والقواعد الأخلاقية، وإنما، وهو الأخطر، من منطلق انهاء أو على الأقل التشكيك فى سلطة القناعات الدينية وانتماء الهوية وانتساب العرق ومتطلبات القوميات والمذاهب. ما نراه فى سوريا أمر عُجاب، ويسترعى الانتباه، لأنه يؤسس للفعل الدموى ولتبريره واستمراريته، حكومة تحاصر مدنها بحجة تمركز الجماعات الإرهابية فيها، وجماعات إرهابية تحاصر نفس المدن لأن بها بعض الجنود، وكلاهما يسهم فى قتل المدنيين، أى أن السلطة والمعارضة لهما مهمة واحدة، هي: القتل، بغض النظر عن الأسباب والخلفيّات. وقوى خارجية متمثلة فى روسيا وإيران وحزب الله تشكل فريقا واحدا، مهمَّتُه محاربة ما يسمونه بالتكفيريين، وبالمقابل تعمل الجماعات الإرهابية على قتل ما تراه ملاحدة وروافض، وإيران تصادر دستورها من أجل دعم الوجود الروسى فى سوريا بغض النظر عن نتائج هذا الوجود حاضرا ومستقبلا. الفريق السابق لحقت به تركيا بعد ارتمائها فى حضن روسيا، وهى التى كانت تسعى قريبا إلى القيام بدور الخلافة من جديد، والولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والعرب يدعَّمون المعارضة، ويقفون إلى جانب روسيا فى حربها ضد داعش، وإسرائيل تقصف مرة وتتحالف مرات مع الأطراف الموجودة عن الأرض، والعرب مع كل الأطراف والدول التى تقتل فى سوريا. الكل يحارب الكل فى سوريا، والكارثة أَنْ لا أحد يحسم فى وجود عدو، وقريبا سنرى داعش تقاتل فى صف روسيا وإيران وتركيا وحزب الله، وسنرى أيضا بعض أقطاب المعارضة ـ بما فيهم أمراء الجماعات الإرهابية ـ وزراء فى نظام يحكمه بشار الأسد، الذى قد يقتل من طرف العلويين، وسنرى الأكراد يحاربون من يدعو منهم إلى دولة كردية.. إنها عبثية بلا حدود.