&عثمان ميرغني&&

إذا كان الدور التركي في سوريا موضع استفهام منذ اندلاع الأزمة قبل أكثر من خمس سنوات، فإنه أصبح اليوم مثيرًا لتساؤلات وشكوك أكبر. فالرئيس التركي رجب طيب إردوغان فاجأ الكثيرين بتحركاته الأخيرة خصوصًا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو (تموز) الماضي، وهي تحركات اعتبرها كثيرون استدارة في مواقفه المعلنة إزاء النظام السوري، وفي سياساته إزاء حلفاء بشار الأسد في روسيا وإيران.

بوادر هذه الاستدارة ظهرت مع الزيارة التي قام بها إردوغان لمقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكانت أول رحلة خارجية له بعد إحباط المحاولة الانقلابية، وشكلت ترجمة للاعتذار التركي عن إسقاط الطائرة الحربية الروسية على الحدود السورية أواخر العام الماضي. صحيح أن إردوغان أراد أيضًا بتلك الزيارة توجيه رسالة غاضبة للغرب وعلى وجه الخصوص للولايات المتحدة، على ما اعتبره تلكؤا في إدانة الانقلاب وما تبعه من انتقادات للإجراءات الأمنية والاعتقالات الواسعة التي قامت بها السلطات التركية. لكن هذا لم يكن الدافع الوحيد لمصالحة إردوغان مع روسيا، لأن تركيا وإن كانت غاضبة من الغرب، وتريد الضغط عليه، إلا أنها لا تفكر قطعًا في طلاق معه أو في انقلاب استراتيجي شامل في علاقاتها من الغرب إلى الشرق.

أنقرة تشعر بقلق كبير من التمدد الكردي في شمال سوريا، وهو قلق يفوق أي قلق قد تشعر به من «داعش»، لا سيما أن لديها الكثير من الخيوط والأوراق التي تستطيع بها التأثير واللعب في موضوع «الحرب على الإرهاب» في سوريا، وهي حرب متعددة الوجوه والأهداف والاستراتيجيات أصلاً. لكنها في الموضوع الكردي لا تملك أوراقًا مماثلة للتحكم فيما يحدث، بل ترى تشابكات وتعقيدات كثيرة مع تداخل استراتيجيات وحسابات أطراف إقليمية ودولية أخرى في الموضوع السوري. فحلفاء تركيا الغربيون لا يبدون واثقين في إردوغان، ولا في المكون السني في المعارضة السورية، ويشعرون أن القوة الحقيقية في هذا المكون هي للحركات الدينية المتطرفة. من هنا اتجهت عدة جهات غربية للعمل منذ فترة طويلة مع الأكراد، سرًا في البداية، ثم علنًا لاحقًا لمحاربة «داعش» ودولته الإسلامية المزعومة.

هذا الدعم أزعج الأتراك الذين اعتبروه خطرًا على أمنهم القومي، خصوصًا مع تحركات أكراد سوريا لإعلان فيدرالية في الشمال. وعبرت أنقرة عن انزعاجها علنًا من خلال التصريحات التي ربطت فيها بين حزب العمال الكردستاني التركي الذي تصنفه منظمة إرهابية وبين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وسرًا من خلال دعمها لتنظيمات أخرى في المعارضة السورية والتنسيق معها لوقف تمدد الأكراد في المناطق التي يطرد منها مقاتلو «داعش» في الشمال. كذلك تبنت تركيا الدعوة لإقامة «منطقة آمنة» على الحدود السورية، هدفها المعلن إيواء اللاجئين السوريين وحمايتهم من غارات النظام، وغير المعلن وقف تمدد أكراد سوريا في الشمال وإنشاء منطقة عازلة بينهم وبين حدود تركيا، وحرمان حزب العمال الكردستاني التركي من أي عمق في الداخل السوري.

إردوغان يدرك أيضًا أن تحركاته في الموضوع السوري والكردي تتطلب تفاهمًا مع روسيا وإيران حليفي الأسد الأساسيين، لذلك قام بزيارته إلى بوتين، وتحدث لاحقًا عن تعزيز التعاون والتنسيق مع موسكو وطهران «لاستعادة السلام والاستقرار في المنطقة». كذلك استخدمت حكومته لهجة مختلفة إزاء دمشق، مشيرة إلى قبولها لفكرة ترحيل البت في مستقبل الأسد «إلى وقت لاحق»، بما يعني قبولها بدور له في المرحلة المقبلة بعدما كانت تصر في السابق على رحيله كشرط لنجاح أي تسوية للأزمة السورية.

موسكو وطهران لم تضيعا من جانبهما أي وقت في استثمار المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا لمغازلة إردوغان، إذ كان بوتين من أول المبادرين للاتصال بالرئيس التركي لتهنئته بإحباط الانقلاب، بينما أرسلت طهران وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إلى أنقرة حيث أجرى محادثات وزار مقر البرلمان التركي الذي تعرض للقصف خلال المحاولة الانقلابية مهنئًا الشعب التركي «على تحديه للانقلابيين». في إطار هذا «التحالف» الجديد يمكن أن نقرأ أيضًا سماح إيران لروسيا باستخدام قاعدة همدان لشن غارات في سوريا، وإن قيل إن هذا الاستخدام كان أمرًا مؤقتًا.

استدارة إردوغان في سوريا لا تخلو من تعقيدات، لأن روسيا لديها علاقات جيدة مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وتردد أنها دعمته بالسلاح. أما إيران فإنها وإن كانت تنظر بعين الريبة إلى تحركات كرد سوريا لإعلان فيدرالية أو حكم ذاتي، إلا أنها تعتبر بقاء الأسد أهم، لذلك تتفهم استراتيجية نظامه إزاء الأكراد وحزب الاتحاد الديمقراطي ونظرته لهم كورقة مهمة في لعبة التوازنات الداخلية وفي معركة البقاء ومنع توحد كل مكونات المعارضة السورية. من هذا المنظور فإن حسابات إردوغان وكثير من الأطراف تبدو معلقة، على الأقل في الوقت الراهن، بما سيحدث في الشمال السوري.

&&

&