&محمد طيفوري &

ما أكثر المفارقات التي تحاصرنا، فالمتابع للأحداث المتسارعة يعي عسر إدراك ما نعيشه، فلا شك أن هاجس الانتماء المجالي ومعايشة اللحظة؛ أي المعاصرة التي يفترض أن تكون عاملا مساعدا على الفهم والإدراك تسقط الباحث في فخ الذاتية، وتتحول إلى عائق معرفي بدل أن تكون شرطا مؤسسا للوعي.

&لنقلها وبصيغة أفصح؛ ما أكثر "التمفصلات" الصغيرة في الدلالة على التحولات التي يعرفها المجتمع المعاصر، ومدى التغير الذي يلحق الوجود الإنساني لجهة الميول والرغبات والبناء الاجتماعي والتحول في الأفكار الصلبة والمستقرة.

&

إننا في زمن الرفاهية المطلقة، الموضة المفرطة، السعادة المفارقة، الفراغ الأيديولوجي، الذهنية الاستهلاكية، الحياة الافتراضية، التقنوية الزائدة، التسليع القيمي،... وهلم جرا من الأوصاف التي تجعل الفيلسوف الفرنسي الشهير جيل ليبوفتسكي » (l’Ere du vide) و«إمبراطورية ما هو عابر» (l’Empire de l’éphémère)؛ وهما تباعا عنوانان لأولى أعمال هذا الفرنسي المتوقد المهووس بالبحث في التحولات الجزئية والتفاصيل الاجتماعية التي تفكك البنى التقليدية.

&

فعلا إنها حقبة الفراغ؛ بكل معنى الكلمة، فالعيش والانتماء إلى العالم الرقمي (الحياة الافتراضية) لدى نسبة مهمة من الأفراد اليوم، يجعل إيمانه بعالم واقعي حقيقي أشبه بمن يعلق الرئة في رقبة القط ويتمنى سلامتها من كل مكروه. إذ لا يستطيع هؤلاء مغادرة هذا العالم لعدم قدرتهم على المواجهة، وأغلبهم في وضعية "اهتزاز نفسي" متقدمة، وقد لا نبالغ إن قلنا إنهم في حالة "فقدان الثقة" و"ضمور الأمل".

&

وقد وصف أحدهم هذه الجموع من الأفراد - في تلك الحالة - وصفا دقيقا بقوله: "إنهم اليوم ملآى بنوع من الخوف والقلق، الذي يتأتى من العيش في عالم ينزلق بعيدا نحو مستقبل غامض، مجتمع ينخر القلق عظام أفراده، ويفرض الخوف تدريجيا نفسه عليهم، ويفسد حرياتهم... إن ناقوس الخطر يدق في كل لحظة وحين".

&

نعم، أليس دليلا على الخواء أن نجدهم أفرادا ذوي تعليم وتدريب، وأصحاب تأهيل وتكوين وخبرة. وفي الآن ذاته يعيشون حياة سمتها التفكيك، بمعنويات محطمة وروح انهزامية في مواجهة الواقع، مستسلمين عند أبسط مشكلة مجتمعية قد تقف في مواجهتهم.

&

زيادة على ذلك، أضحى هؤلاء مع مرور الوقت مجمع كل التناقضات فهم راشدون وبالغون وناضجون، لكنهم غير مستقرين وقلقون ومضطربون. هم أيضا أقل تمسكا بالأيديولوجيا، وأكثر ميلا نحو التحررية. ما يسقطهم في شراك التبعية لتغيرات الموضة ونزعاتها المتلاحقة. باختصار، هم أكثر انفتاحا وأسهل تأثرا، أكثر انتقادا بلا بدائل، وأقل يقينا مع غموض وافر، وأكثر سطحية دون أي عمق. تمتد تجليات حقبة الفراغ تلك إلى المجتمع الذي تحول إلى مجتمع إغراء لا يقاوم أو بتوصيف الفيلسوف الكندي سيبستيان تشالز (Sébastien Charles) ب "مجتمع الغواية"، إذ القاعدة الجاري بها العمل هي تشجيع الأفراد على الاستهلاك من أجل المتعة لا استجابة لحاجيات حياتهم الاجتماعية والمعيشية. الواضح إذن أن "ذهنية الاستهلاك" لم تدخل في ميدان الشراء والرفاهية فقط، وإنما تغلغلت في مختلف الاتجاهات لتفكيك العلاقات والروابط التقليدية (الأسرة، الدين، السياسية...).

&

يظهر ذلك بجلاء في الذهنية السائدة داخل هذه المجتمعات من خلال التغيير العميق لطبيعة آليات الاستهلاك، فإحدى سمات "مجتمع الغواية" تنامي النزعة الفردية الاستهلاك في نشاطات غير منتجة (الأسفار، التسلية...). الأمر الذي تتحول معه فكرة الاستهلاك من استهلاك لغاية وتلبية لحاجة ملحة وضرورة معيشية إلى استهلاك لحد ذاتها؛ أي أن الغاية هي العملية عينها. الأكيد أن الإنسانية بصدد تشييد حقل ثقافي جديد على أنقاض الحقول الثقافية الكلاسيكية المعروفة. حقل تعد الإمبراطورية أنسب كلمة لتوصيفه، وهو ما عبر عنه أحدهم بقوله إن: "كل شيء يجري، وكما لو أن الاستهلاك يعمل من الآن فصاعدا مثل إمبراطورية ليس فيها أي وقت ضائع، فضلا عن أنها لا تمتلك أية حدود مرسومة بدقة".

&

لكن التساؤل الأساسي الذي سيظل عالقا ردحا من الزمن هو عن الكيفية التي بالإمكان العيش بها في عالم دون بوصلة؟ هناك من يرى، من أمثال الفيلسوف الفرنسي المثير للجدل أندري كونت سبونفيل (André Comte- Sponville) بأن العيش في هذا العالم التائه، المستلب بكل أشكال الاستهلاك، الغارق في "طوفان الرغبة" ممكن، لكن ليس بتخيل قيم جديدة، وإنما بابتداع نمط جديد من الوفاء لتلك التي تركها لنا تاريخ الإنسانية، أو تلك التي أنتجها التاريخ الخاص لكل مجتمع مع الانتباه إلى ما يفرزه العالم الذي يتشكل أمامنا من مظاهر التسلط، والاغتراب، والقلق.

&

يبدو جواب سبونفيل هذا أقرب ما يكون إلى ذاك المثل العربي القائل: "وفسر الماء بعد جهد بالماء"، فهو يبدأ حديثه بالتيه والضياع وضبابية الرؤية وانسداد الأفق وتنامي ظاهرة التسليع والخضوع لتسونامي الاستهلاك، ويختمه بالدعوة إلى ضرورة بعث القيم الإنسانية التقليدية وإحياء المنتج الجمعي لهذا المجتمع أو ذلك في مواجهة هذا الوضع. والحال أن تلك الدعوة، تفترض ضمنيا وعيا وإدراكا من جانب الفرد لما يحيط به من مخاطر ويحدق به من مزالق، وهو ما ينعدم في حضارة اليوم التي يكاد لسان حالها يردد مع الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتني: «أنا الغريق فما خوفي من البلل».