&عبد الوهاب بدرخان


مهمٌّ جدّاً أن تكون «وحدة سورية أرضاً وسيادة» المبدأ الأول في «التفاهم الثلاثي» الروسي - الإيراني - التركي، مهمٌّ أيضاً أن تكون «محاربة الإرهاب» هدفاً لجميع المتدخّلين في سورية، ومهمٌّ أكثر فأكثر أن تكون عودة المهجّرين واللاجئين الى مواطنهم في طليعة أهدافهم... لكن الأهمّ معرفة مَن يخدع مَن في عملية تغيير التحالفات هذه، وبالتالي مَن سيكون الرابح أو الخاسر فيها، خصوصاً أن هذه الأطراف الثلاثة وشريكها الرابع، نظام بشار الأسد، لم تتحدّث في غمار ترتيب تقارباتها عن «وقف الحرب» أو حتى عن «هدنة»، بل استهدفت الأكراد مفتتحةً حرباً أخرى داخل «الحرب على الإرهاب».
أين الولايات المتحدة مما يجري؟ هو السؤال الذي يتردّد حالياً، وجوابه أن «البطّة العرجاء» دخلت في غيبوبة الانتخابات الرئاسية. لم تتوصّل الى تنسيق متقدّم مع روسيا، لا عسكرياً ولا استخبارياً ولا سياسياً، ولم تظهر على الشاشة إلا لإنذار نظام الأسد بوقف هجمات طيرانه على قوات «حزب الاتحاد الديموقرطي» (الفرع السوري لـ «حزب العمال الكردستاني») في الحسكة. لم يكن لديها موقف واضح لتهدئة هواجس تركيا حيال طموحات هذا الحزب الكردي ومشاريعه. والواقع أن الحراك الإقليمي الراهن، بإشراف روسي، هو نتيجة مباشرة وطبيعية للغموض أو اللاسياسة الأميركيَّين. فإدارة باراك أوباما قادت «حلفاءها» من سوريين وعرب وأتراك وأوروبيين الى المجهول، بعدما بالغت في منعهم من بناء أي توازن مع الحلف الروسي - الإيراني، وبالتالي كانت تُضعِف «الحل السياسي» أو ترجّحه لمصلحة الأسد وحلفائه.


لذلك، فإن صمت واشنطن حيال «التفاهم الثلاثي» الناشئ قد يكون مباركةً له طالما أن «التنازلات» الرئيسية لروسيا وإيران لم تأتِ منها بل من تركيا، مطمئنةً الى أن التنازل التركي العلني يتناغم عملياً مع التنازل الأميركي السرّي وإنْ لم يتمّ بالتنسيق مع واشنطن ولم يجيّر لمصلحتها بل لمصلحة روسيا واستراتيجيتها في إدارة الأزمة السورية. لكن الصمت قد ينطوي على انزعاج أميركي من تركيز أطراف «التفاهم» على زعزعة «الورقة الكردية» التي لعبتها واشنطن تحت راية «محاربة داعش»، ولم تكترث للقلق الذي أثارته لدى أنقرة أولاً ولدى طهران ودمشق لاحقاً، ما أدّى الى تقاطع مصالح هذه العواصم. وعلى رغم أن تفاهماً مع الأميركيين دفع الروس أيضاً الى الانفتاح على الأكراد وعرض المشاركة في تسليحهم وحتى دعم اعتمادهم النظام «الفيديرالي» وفرضه على أي حل سياسي، وصولاً الى فتح ممثلية لهم في موسكو، إلا أن استمالة تركيا استحقّت تجميد أو التظاهر بتجميد هذا التفاهم.
بين الأسباب التي كانت أقنعت روسيا باستقطاب أكراد الفرع السوري لـ «بي كي كي»، أن هؤلاء ظلّوا طوال الأعوام الخمسة الماضية متعاونين مع حليفيها النظامين الإيراني والسوري، وتم توظيفهم (كما وُظّف «داعش» في بداياته) في إضعاف سيطرة المعارضة والحدّ من انتشار «الجيش السوري الحرّ»، كما في مناكفة تركيا وإثارة أكرادها وحض الـ «بي كي كي» على استئناف عملياته ضد الجيش والشرطة التركيين. غير أن نفوذ طهران ودمشق لدى أكراد صالح مسلم راح يتراجع تدريجاً مع تطوّر علاقة هؤلاء مع الأميركيين الذين أشعروهم بأن قتالهم ضد «داعش» يمكن أن يُكافأ بإقليم كردي في شمال سورية وفقاً لسيناريو الإقليم الكردي في شمال العراق، على رغم اختلاف الظروف. وبما أن روسيا تتصرّف في سورية وفقاً لحاجاتها، فقد أخذت في الاعتبار خشية حليفيها الإيراني والأسدي من انقلاب «الورقة الكردية» ضدّهما، وبعد مصالحتها مع أنقرة وجدت الفرصة سانحة لمقايضة تجميد انفتاحها على الأكراد وتقديم «ضمانات» لمنع إنشاء كيان كردي على حدودها (وهي ضمانات تلكّأت أميركا في توفيرها) لقاء تغيير تركيا مقاربتها الأزمة السورية وتخلّيها عن مطلب «رحيل الأسد»، وبالتالي دعمها حلاً سياسياً يبدأ بـ «حكومة وحدة وطنية» تضم معارضين تحت رئاسة الأسد لمرحلة انتقالية وصفتها إعلانات بن علي يلديريم الترويجية بـ «القصيرة».
لا شيء يضمن ثبات الموقف الروسي لأن الأولوية عند موسكو تبقى لمصالحها وللتفاهم حيثما أمكنها ذلك مع الولايات المتحدة، وإذا اقتضت القبول بإقليم كردي سوري فإنها لن تعرقل قيامه. وفيما دخل الروس وسواهم مرحلة انتظارالإدارة الاميركية المقبلة وخياراتها، فإن ذلك لا يمنع موسكو من استغلال الوقت الضائع بمزيد من الإذلال لإدارة أوباما بتجريدها من الحليف التركي أو بتقاسمه معها، أقلّه في المعادلة السورية. لذلك، قد يكون في مصالحة فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان جانب استراتيجي أبقي بعيداً من الأضواء وشكّل قاعدة صلبة للتغيير التركي، الذي لم يظهر منه حتى الآن سوى العناوين. فخطورة المسألة الكردية هي داخلية بالنسبة الى تركيا قبل أن تكون على الحدود مع سورية، وبالتالي فإن «الضمانات» التي تطلبها تتعلّق بأمنها القومي وثبات كيانها الجغرافي وبوقف عملية «تصحيح سايكس - بيكو» لإنصاف الشعب الكردي.


لم يرَ الإيرانيون ضرورة لإبراز «وحدة سورية» إلا في سياق اجتذاب تركيا الى المحور الذي يضمّهم مع روسيا ونظام الأسد، وتفعيلاً للتوافق الذي نشأ مع الأتراك في مواجهة الخطر الكردي. قبل ذلك، كانت طهران طرحت نفسها شريكاً لأي قوة دولية تريد تغيير خرائط المنطقة، وعندما كانت تحقق «انتصارات» ميدانية في سورية، لم يتردّد بعضٌ من مسؤوليها وأبواقها في التفاخر بأن إيران هي التي تقود «تصحيح سايكس - بيكو» بخريطة جديدة من ابتكاراتها. وبعد التوقيع على الاتفاق النووي، ظنّ الإيرانيون أنهم تموقعوا جيداً لإدارة المنطقة كقوة ثالثة بين روسيا والولايات المتحدة، لكن هذا الشعور بفائض القوة راح يتقلّص بعدما اضطر المرشد علي خامنئي لطلب التدخّل الروسي في سورية، وبعد سلسلة خسائر بشرية في العديد من الجبهات، ثم باضطراب مناطق الكرد داخل إيران، وأخيراً بإعارة قاعدة همدان الجوية للروس وما استتبعها من تداعيات. بل يبدو أن طهران أدركت أن موسكو ذهبت بعيداً في ضماناتها لمصالح تركيا في شمال سورية، لكنها لم تبدِ حماسة لضمان المصالح الإيرانية، ففي نهاية المطاف يعطي الموقع الجغرافي لتركيا ميزات وإمكانات للعب دور عسكري لا تملكها إيران للعب دور مماثل.
الأكيد، أن خطب ودّ أنقرة يستدعي قبول نفوذها في شمال سورية، وهو ما أوحت به روسيا وإيران، وما باشرت تركيا ممارسته في منطقة جرابلس التي طالما اعتبرتها «خطاً أحمر» لأمنها القومي، سواء لضرب «داعش» وطرده منها، أو لمنع الأكراد من الوصول الى عفرين، غرب الفرات، تحت غطاء «قوات سورية الديموقراطية». هذا لا يعني أن روسيا وإيران ونظام الأسد تخلّوا عن هدف استراتيجي آخر هو إضعاف المعارضة السورية بل تصفيتها للتمكّن من فرض «حل سياسي» بشروطهم. والمطلوب من تركيا أن تنخرط في هذا المسار الذي سينعكس بالضرورة على دعمها الفصائل، ولذلك تباطأت الحملة للسيطرة على حلب كاملة. فليس متاحاً لتركيا أن تنال مصلحتها وأن تواصل الحرب على النظام كما في السابق، وقد تحاول إقناع حلفائها الجدد بإبقاء خطوط التماس على حالها الراهنة لتمرير استئناف التفاوض في جنيف، لكن يصعب أن تنجح في ذلك لأن الأجندات الاخرى تعاكس رغباتها ومناوراتها.
من الطبيعي أن تكون للتوجّهات التركية الجديدة انعكاسات سلبية أيضاً على التنسيق مع جهات عربية عدة في دعم المعارضة. ومع افتراض أن الجانب العربي، الذي خاض مراهنتين خاسرتين على الولايات المتحدة وروسيا، سيحافظ على الحدّ الأدنى من المراهنة على تركيا، فإنه لن يستطيع تقبّل تصفية المعارضة وانفراد الأطراف الدولية والإقليمية بتقرير مصير سورية وشعبها، خصوصاً أن المبادئ المطروحة لـ «الحل السياسي» تبدو صفقة خداع أكثر مما هي مشروع لإنهاء الصراع.