مأمون كيوان

تتعدد المؤشرات المستخدمة من قبل جهات أكاديمية ومؤسسات دولية لقياس قوة الدول ودرجة تطورها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وعسكريا، واعتمادا عليها تصدر رزمة تقارير لعل أهمها تقرير التنمية البشرية في العالم الذي يصدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، وهناك عشرات من المؤشرات عن ترتيب الجدارة الائتمانية للبنوك والمؤسسات المالية وعن الشفافية المالية وعن احترام حقوق الإنسان وعن أوضاع المرأة، والقائمة طويلة جدا. ومن أبرز تلك المؤشرات: مؤشر التنمية البشرية ومؤشر الحرية الاقتصادية ومؤشر البيئة ومؤشر الشفافية ومؤشر الاستثمارات الأجنبية ومؤشر المخاطر القطرية ومؤشر الدول الفاشلة ومؤشر العولمة ومؤشر الثروة.

ويدعى جديد تلك المؤشرات بمؤشر الدول المفيدة لغيرها من دول العالم على المستويات التعليمية والثقافية والإنسانية. وهو من بنات أفكار مستشار السياسة المستقلة، سيمون أنهولت، الذي أوضح بدوره أنه أراد أن يقيس مدى المساهمة التي تقدمها كل دولة إلى الكوكب والبشر. وأن أكبر التحديات التي يواجهها الجنس البشري اليوم هي تحديات عالمية وعابرة للحدود، مثل التغيّر المناخي، والأزمة الاقتصادية، والاتجار في المخدرات، والرق، والأوبئة، والفقر وعدم المساواة، ونمو السكان، ونقص الماء والغذاء، وفقدان الأنواع، وحقوق الإنسان والهجرة. ويركز مؤشر الدول المفيدة أكثر على ما تفعله الدول، وليس على وضعيتها الاقتصادية. 

وهذا المؤشر عبارة عن تصنيف يلقي الضوء على الدول والمناطق التي تقدم الكثير في مجالات السلام، والعلوم، والتكنولوجيا، والمناخ والصحة. وفي عام 2014 وحسب هذا المؤشر جاءت أيرلندا في الصدارة متفوقة على 124 دولة، كما احتلت الصدارة من حيث الرخاء والمساواة. وجاءت المملكة المتحدة في الصدارة من حيث الإسهامات العلمية والتكنولوجية، وأيسلندا من حيث العلوم المناخية، وبلجيكا من الناحية الثقافية. واحتلت ألمانيا الصدارة من حيث النظام العالمي، الذي يعنى بأعمال الخير والنمو السكاني، فيما برزت إسبانيا على صعيد المساعدات الغذائية والإنسانية.

ووفق هذا المؤشر، جاءت الدول العشر الأولى كما يلي: أيرلندا، فنلندا، سويسرا، هولندا، نيوزيلندا، السويد، المملكة المتحدة، النرويج، الدنمارك، بلجيكا. واللافت أنه باستثناء المملكة المتحدة، لم تدرج أي من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ضمن الدول العشر الأولى. ويثير هذا الأمر التساؤل حول حدود الفائدة التي تقدمها هذه الدول للبشرية!!.

ولعل الولايات المتحدة الأميركية هي النموذج القابل للاختبار فقد تنازعها تياران أولهما يدعى تيار العزلة والانطواء على الذات. والثاني هو تيار الانفتاح على العالم ونشر قيم الحرية والديمقراطية الأميركية من خلال قائمة طويلة من التدخلات العسكرية وتسويق النزعات الاستهلاكية.

ويزعم أنصار التيار الثاني، ومنهم جوزيف بايدن نائب الرئيس الأميركي الحالي، أنهم متفائلون بمستقبل أميركا وديناميكية اقتصادها وقوة جيشها، وتحديثها شبكة لا مثيل لها من التحالفات والشراكات ودمجها ضمن نظام دولي أوسع من القواعد والمؤسسات.

ويعتقد توم دونيلون مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، أن ميزة أميركا المفيدة تكمن في شراكتها مع جارتيها: الشمالية والجنوبية، أي كندا والمكسيك ووضع جدول أعمال مشترك للاستفادة من الموقع الإستراتيجي لأميركا الشمالية الذي لا مثيل لميزاته. ومنها جغرافية كندا، المكسيك، والولايات المتحدة حيث 7500 ميل من الحدود الهادئة. والميزة الاقتصادية المتمثلة في سوق متكامل مفتوحة لأكثر من 450 مليون شخص، وناتج محلي سنوي إجمالي يبلغ 20.5 $ تريليون أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

ويرى المفكر فرانسيس فوكوياما أن أميركا تعاني انحلالا سياسيا، معتبرا أن القصة الحقيقية الكامنة وراء حملة الانتخابات الرئاسية الحالية تثبت، وبعد عقود، أن الديمقراطية الأميركية أخذت أخيرا في الانتقام من اللامساواة في المجتمع الأميركي.
ويعتقد فوكوياما أن النظام السياسي الأميركي في حالة ركود ولا بد من تجديده. إذ يعاني النظام الدستوري غياب الضوابط والتوازنات، وظاهرة الاستقطاب الحزبي وظهور جماعات المصالح ممولة جيدا، وسيادة ما يسمى "الفيتوقراطية"، وهي الحالة التي يكبح فيها سعي الحكومة إلى القيام بأشياء لتعزيز الصالح العام. 

وعند البحث عن أسباب العداء للطبقة السياسة الحاكمة في أميركا، وهيمنة الشعبوية على الحملة الانتخابية للعام الحالي، يتجلى بوضوح بحسب فوكوياما أن كلا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، لم يخدم، طوال عقود، مصالح الفقراء وصغار الموظفين ولا العاطلين أو الذين يعملون بدوام جزئي، أو الأمهات العازبات.

ووفق هذه العينة من الحقائق والمعطيات تبدو الولايات المتحدة تنحدر نحو الدرجات الأخيرة في قائمة الدول المفيدة للبشرية، وفي الوقت نفسه تتبوأ مكانة الصدارة في قائمة الدول المقيدة للبشرية. وكي تكون أميركا مفيدة على نخبها السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية إنجاز تغيير حقيقي في النظام السياسي الأميركي لصالح فائدة عموم الأميركيين أولاً، لا يقود إلى إحياء الانعزالية والنأي بالنفس عن أزمات البشرية، بل يؤسس لدور قيادي إيجابي.