نديم قطيش

الحضور الأميركي في ملفات المنطقة، من ليبيا إلى تركيا مروًرا بالعراق وسوريا واليمن، ليس تعديلاً على الإدارة المباشرة هو قرار استراتيجي، وهو حضور من باب تنظيم الانسحاب، والتأكد من أن الوريث ليس سياسات الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط. على العكس، هو تأكيد أن قرار الانسحاب الأميركي من الفوضى، بل تقدم اللاعبين الإقليميين نحو تحمل المسؤوليات في منطقة تعني مصالحهم المباشرة أكثر بكثير مما تعني المصالح الأميركية.

أًيا يكن الرئيس الأميركي المقبل، لن تعود أميركا إلى سياسات الشرق الأوسط القديمة التي تؤكد واشنطن يومًيا على مغادرتها. حتى هيلاري كلينتون، التي تنتمي إلى الرعيل الأميركي «الشرق أوسطي»، بمعنى مركزية هذه المنطقة في وعي هذا الجيل وحساباته وفهمه للعالم، لا تملك - لو انتخبت رئيسة - خيار الانقلاب على القرار العميق بالانسحاب من الشرق الأوسط، جل ما يمكنها فعله هو تنظيم انسحاب أفضل، وأقل راديكالية، في الشكل، من شكل الانسحاب الذي قدمته حتى الآن إدارة الرئيس باراك أوباما.

دفعت سوريا، وتدفع، الكثير، وقد تدفع المنطقة كلها أثماًنا باهظة في هذه اللحظة الانتقالية التي يمر بها الشرق الأوسط، من كونه منطقة صراع الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، إلى كونه منصة الاحتفال بالأحادية الأميركية الآفلة، إلى كونه الآن منطقة نفوذ أوروبية آسيوية لا تريد أميركا أن تدفع أكلاف إدارتها.

طبع التردد سلوك الورثة، لم تتقدم روسيا إلى أخذ حصتها إلا حين تأكدت أن الفرصة المتاحة حقيقية. تحدث أوباما كثيًرا، بعد مغامرة موسكو في أوكرانيا، عن ضرورة عزل روسيا دولًيا، وها هو اليوم يجعل من وزير خارجيته مساعًدا لوزير خارجية القيصر الروسي سيرغي لافروف، لا يريد لعزة النفس أن تعيق تقدم خصومه وحلفائه إلى حيث يريد لهم أن يتقدموا.

لم تتقدم تركيا إلا متأخرة، حين أدركت أن تحالف التاريخ والجغرافيا لا يرحم، ولا يسمح بانتظار تحرك واشنطن في سوريا لأنها لن تتحرك. اختارت أنقرة في الذكرى الـ500 لمعركة «مرج دابق» أن تقدم على ما كان يفترض أن تقدم عليه قبلاً، وهو الدخول الجاد في الأزمة السورية، لحجز مقعد على طاولة الشرق الأوسط الجديد.

إيران تكاد تكون أكثر الدول عرضة للتأقلم الصعب مع حقائق الإقليم. لم يعد الوضوح الثوري يقود إيران وموقعها في المنطقة، تتحالف مع روسيا المتحالفة مع إسرائيل، لا سيما في سوريا. للمرة الأولى في تاريخها الحديث، تتنازل بشكل اضطراري عن سيادتها، لصالح استضافة الطائرات الروسية، وسط إرباك كبير في مواقف الداخل الإيراني من هذه الخطوة.

تشن أدواتها حرًبا ضروًسا على تركيا التي يهرع إليها محمد جواد ظريف للبحث عن مشتركات في ملف مكافحة الإرهاب.
لم تعد المسألة بالنسبة لإيران مزارات ومقدسات أو حماية ظهر المقاومة. هي الآن في لعبة تقرير المصائر والأدوار والوظائف في الشرق الأوسط الوليد من رحم سوريا، ومن رحم الانسحاب الأميركي. نهر الفرات حدد موقعها في الإقليم، وها هو يحدده الآن مرة أخرى.

الصين ليست بعيدة. استثماراتها السياسية تتضح أكثر في أفغانستان وباكستان، حيث الفراغ الأميركي المقبل مهما تعدلت جداول الانسحاب الأميركي، علاقاتها بـ«طالبان»، واستثماراتها في البنية التحتية في هذه البقعة من العالم، في أنابيب النفط والغاز والطرقات والموانئ، تتجاوز مئات المليارات من الدولارات.

ولأن سوريا اليوم تبدو شباك التذاكر للراغبين في بطاقات الجلوس على طاولة الشرق الأوسط الجديد، كان لافًتا أن تعلن بيجينغ أنها تريد علاقات عسكرية أوثق مع سوريا، خلال زيارة عسكرية نادرة لوفد صيني إلى دمشق، تخللها اجتماع عسكري رفيع المستوى بين الصينيين والروس!

السؤال المهم أين موقع العرب في الخرائط المتحركة؟
العلاقات المصرية الروسية تتقدم على وقع اكتشافات الغاز الضخمة في أرض الفراعنة. كل ما تحتاجه مصر هو سد الثغرة بين الآن ومنتصف عام 2017، والدعم السعودي رئيسي في هذا السياق. التعاون الاستراتيجي بين موسكو والقاهرة أنتج تغيير المعادلة في ليبيا نسبًيا في مواجهة «داعش» والفوضى! كما أن مصر حققت أول النجاحات في مواجهة «داعش» حين منعت تنظيم الدولة المزعومة من تأسيس موطئ قدم في سيناء، على ما حصل قبلاً في العراق وسوريا وليبيا!

السعودية، يلح عليها سؤال ما بعد عاصفة الحزم. أي ما هو المشهد المقبل للانخراط السعودي في الدفاع عن الأمن القومي للمملكة، في اليمن والبحرين! عاصفة الحزم أنجزت الكثير، ردت العدوان الإيراني، وأعادت تقديم السعودية كدولة واثقة من نفسها، والانتقال بات واجًبا إلى مرحلة جديدة.. إلى مشهد جديد.
الجميع مربكون.. الجميع محاصرون بسؤال كبير: ماذا بعد؟