بهاء أبو كروم

الحديث الروسي المتصاعد عن تفاهمات مُنجَزة مع الولايات المتحدة فيه كثير من المبالغة المقصودة، وهو تعبير عن سياسة «التغلغل الناعم» الذي يعتمدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدخول على قضايا الشرق الأوسط، وذلك بالموازاة مع فظاظة وحلف القوة العسكرية التي يستخدمها بمواجهة الشعب السوري. فبوتين يلعب بالميدان الشرق أوسطي وكأنه أمر يتعلق بالمدى الحيوي المباشر للعاصمة موسكو.

ولا توازي البهجة التي ترتسم على وجه وزير دفاعه سيرغي شويغو وهو يعلن عن الشروع باستعمال القاذفات الاستراتيجية المنطلقة من قاعدة همدان في إيران لقصف مواقع «الإرهابيين» في سورية، إلا فرحة وزير خارجيته سيرغي لافروف وهو يمسك بأوراق الملف السوري مُفوَّضاً من الولايات المتحدة لحل المسألة السورية.

لكن في موازاة المبالغة المقصودة، هناك أمل روسي دائم بإمكانية التوصل إلى تفاهم أمني وسياسي مع الأميركيين، نجح حتى الآن في إطار الحد الأدنى لتفادي الاشتباك ليس إلا. مبعث ذلك هو حاجة الأميركيين لإنجاز فعلي في مواجهة داعش في العراق أو سورية قبل موعد رحيل الرئيس باراك أوباما الذي تعتمد إدارته سياسة الغموض البناء ولا تفصح عن أهدافها الحقيقية.

إزاء ذلك تُستدرج روسيا إلى الانخراط عسكرياً في شكل أكثر فاعلية في الساحة السورية، على قاعدة تحسين شروطها وموقعها في التفاوض السياسي. وهي تجد نفسها متوغلةً في الشأن الكردي وشؤون المسيحيين والأقليات في شكل عام، ما يجعلها على تماس مع مشكلات المنطقة ويدفعها إلى الانغماس في تناقضاتها اليومية. ولقاء الإمساك بمجمل هذه الأوراق، يظهر السياق التصاعدي للتورط الروسي في ظل عجزها عن ترجمة ثقلها العسكري إلى مكاسب سياسية، وقد كانت أعلنت منتصف آذار (مارس) الماضي انسحابها بعد «تحقيق الأهداف المرسومة»!

هذا الانزلاق التدريجي يدفع روسيا إلى الانخراط بكل تفاصيل الاشتباك الإقليمي الدائر في المنطقة والإطلالة على كل ساحاته أيضاً، بخاصة بعدما تم صدها من الحدود الشرقية لأوروبا بعد قمة حلف الأطلسي الأخيرة في وارسو التي أقرت استراتيجيةً طويلة الأمد لردع الطموحات الروسية واحتوائها. وبعدما بدأت تخسر جولات عسكرية في سورية، فهي لن تتردد في البحث عن أوراق تقوي موقعها في مواجهة القوى الإقليمية التي تتصارع معها هناك، بخاصة إذا كانت إيران مستعدةً لمساعدتها وتمكينها من ذلك.

من هنا يمكن فهم الموقف الملتبس للسياسة الروسية في الخليج حين رفض المندوب الروسي في مجلس الأمن صيغة مشروع البيان الذي يندد بتشكيل المجلس السياسي لتحالف الحوثيين وصالح في اليمن، بعدما كانت موسكو متعايشةً مع القرار الدولي رقم 2216، على رغم إعادة تأكيد مساعد وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف على اعترافهم بشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، يُضاف إلى ذلك رمزية انطلاق الطائرات الروسية من قواعد في إيران وانتشار فرقاطات روسية قرب خليج عدن بذريعة حماية السفن من عمليات القرصنة. فالخليج يشكل وجهةً منطقيةً للانتشار الروسي، بعدما رسّخ حضوره في المتوسط وعزز علاقاته الاستراتيجية مع مصر.

لا شك في أن عقبات كثيرةً تقف حائلاً أمام حلم بوتين في استعادة أمجاد سوفياتية سالفة، فالشرق الأوسط الذي احتضن الوجود السوفياتي كان يقوم على بنية قومية صلبة وصراع مع إمبريالية الولايات المتحدة وصعود القضية الفلسطينية التي رسخت نزعة العداء لإسرائيل، وكل ذلك شكل الأرضية الثقافية الحاضنة لفكرة التوازن الاستراتيجي مع عالم الغرب المنحاز. لكن روسيا اليوم تقف على شرق أوسط يتآكله مشروع إيران المذهبي وهي تدخل إليه من الجانب الذي يعاكس نزعاته المعاصرة مُنحازة إلى ما تبقى من استبداد ومقتبِسة منه أساليبه العنفية ذاتها. وهذا الشرق الأوسط لا أرضية فيه لوجود توازن مستدام تفرضه روسيا على شعوب المنطقة، الّلهُمّ إلا باستعمال القوة المفرطة.

من جهة أخرى، شهد الشرق الأوسط عبر التاريخ توازناً دقيقاً للغاية بين نفوذ إيران وتمدّد روسيا، بحيث يفرض تراجع الأولى تمدداً للثانية وهكذا دواليك، وأفضل من أدرك هذا التوازن كان الرئيس السوري حافظ الأسد الذي بادر إلى الالتحاق بالمركب الأميركي في تحرير الكويت عام 1991 عندما لاحت بوادر سقوط الاتحاد السوفياتي، وذلك إيماناً منه بأنه سيصبح رهينةً لإيران، إذا لم يوازنها بتجسير علاقاته مع الولايات المتحدة التي مدّدت له إقامته في لبنان وأبقت ورقة حزب الله بيده.

لذلك ربما يستدعي النظر إلى التمدد الروسي من هذه الزاوية وباعتباره يأخذ من درب إيران في المدى البعيد. أما الرسالة من وراء الحضور الروسي في الأجواء وعلى الأراضي الإيرانية فتكمن في التوازن مع الوجود الأميركي في الخليج وتأمين المظلة الفعلية لإيران في المنطقة. روسيا تقول إنها شريكة لإيران من موقع الأُبوّة، وكما حمى خامنئي نظام الأسد فبوتين يحمي نظام خامنئي من أي تحول خارجي أو حتى داخلي، مقابل أن تكون له الكلمة الفصل في القضايا الرئيسية.

عين روسيا على التمدد في الشرق الأوسط لتأمين حضورها الطويل الأمد في سورية، وعين الولايات المتحدة على توريطها في الوحول السورية ورفع كلفة وجودها لإضعاف موقفها على الصعيد الدولي، ومن السذاجة التطلع إلى الأداء الأميركي من غير هذه الزاوية.