&حسن حنفي

هناك فرق بين التاريخ والوعي بالتاريخ. التاريخ ليس زماناً أو عصوراً وسنوات طبقاً لدورات الأفلاك. هذا هو الزمان الكوني الفلكي الذي لا يشعر به أحد. هو زمان تقريبي للحساب وليس زماناً شعورياً وإحساساً بالتاريخ. وإنما التاريخ هو الوعي بالتاريخ، والزمان الكوني هو الزمان الشعوري. فالمواطن الرواندي -على سبيل المثال- الذي كان يُقتل طبقاً للهوية، هوتو أو توتسي، لم يكن يعيش نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، بل كان يدافع عن بقائه في العالم كجسد وكائن حي. هويته القبلية بما تمثله من لغة وعادات وأعراف، وصراعات، هزائم أو انتصارات. والأفغاني الذي يقتل الأفغاني منذ سنوات، والسجين والمواطن الفلسطيني في إسرائيل، والصومالي المهدد بالموت عطشاً أو جوعاً، لا يعيش ألفية ثالثة بل يعيش كل منهم تاريخه، ويحمل همه، ويئن تحت ثقافته، ويحاصر في وطنه، ويريد البقاء حياً بدافع غريزة حب البقاء.

وفي مناطق من الوطن العربي يعيش المواطن في ظروف من الفقر كتلك التي عاش فيها أسلافه، وكأن قدر عيشه الضنك والفقر والقهر والضياع والإحباط، وكأنهم حاضرون معه، يحادثهم ويستشهد بأقوالهم، ويتأسى بحياتهم، ويتخذهم له قدوة وسلوكاً. ويقرأ أحياناً مدونات ثقافية قديمة هي طبقاً للتحقيب الغربي ثقافة العصر الوسيط، الثقافة القديمة في عصر ما قبل الحداثة والعالم الآن كله، وبلا استثناء، يتجه إلى ما بعد الحداثة إن لم يكن يعيشها بالفعل كما يبدو ذلك أحياناً في خطاب المثقفين والأدباء والفنانين العرب.

وقد لا يعيش مواطن في المركز الأوروبي رافضاً لثقافته ومحتجاً على نظامه، مساره التاريخي الخاص، ويعيش مسار ثقافة الشرق البعيد، الهند أو الصين، حالقاً شعره، لابساً مسوح الرهبان، متعبداً في جبال الهيمالايا، يعشق الدالاي لاما أو في أحياء الحسين والأزهر وخان الخليلي، يستبطن ثقافة الشرق. فالوعي بالتاريخ لا يتعدد فقط بتعدد الثقافات والشعوب ولكنه قد يختلف من فرد إلى آخر. لا يوجد تاريخ واحد لكل الشعوب بل هناك وعي تاريخي متعدد عند كل شعب وربما عند كل فرد.

ويكشف تحليل ألفاظ هذا الإشكال مثل الهوية الثقافية والعولمة، الخصوصية والعالمية، المحلي والكوني، عن ثنائية أعمق هي ثنائية الأنا والآخر. وعادة ما يكون الأنا هو الذي يدافع عن الهوية الثقافية والخصوصية والمحلية في مواجهة الآخر الذي يتحد مع العولمة والعالمية والكونية. فالعلاقة بين الطرفين ليست مجرد موضوع لبحث علمي بل هي أزمة وجودية تاريخية تعبر عن صراع أكثر مما تعبر عن مجرد تضايف أو حوار.

وقد تعبر عن إحساس مرَضي، مركب النقص في مقابل مركب العظمة، المقهور والقاهر، المستعمِر والمستعمَر. فهي علاقة غير متكافئة بين خصمين وليست علاقة متكافئة بين ندَّين. لا يستطيع المثقف العربي أن يجردها بدعوى الموضوعية والحياد لأنه جزء منها إن لم يكن طرفاً فيها. بل ولا يكفي عرضها من أدبياتها التي تزداد يوماً بعد آخر من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية وفلاسفة السياسة والتاريخ. فهي تجربة معيشة عند كل مثقف عربي يشعر بهذا التمزق، منذ القرن الماضي، بين القديم والجديد، بين الأصالة والمعاصرة، بين الخصوصية والعالمية، بين الأنا والآخر، وتنعكس في الفكر والأدب والفن، في حياة الإبداع وفي السلوك اليومي. وغالباً ما تكون الأحكام تعبيراً عن مواقف نفسية وانفعالية إما بالاتجاه إلى الآخر رغبة في أن يكون حديثاً عصرياً في مواجهة ثقافة قديمة تراثية وعقل قطعي مغلق، أو بالاتجاه إلى الذات رغبة في أن يكون أصيلًا مدافعاً عن هويته الثقافية في مواجهة التغريب والتبعية الثقافية والهيمنة الحضارية.

وتحليل هذه التجارب المعيشة وراء هذين الموقفين المتضادين الحدّيين قد يكشف عن عمق الأزمة وصدقها، ويساعد على سبر غورها واستبصار مسارها، وتحويلها من ظاهرة انفعالية شخصية إلى موقف حضاري رصين من منطلق تاريخي أوسع من أجل تحقيق مُثُل التقدم والنهضة التي يشارك فيها الجميع ويسعى إليها، حتى لو اختلفت الوسائل وتعددت الطرق. وتحليل التجارب المعيشة الفردية والجماعية لإدراك ماهيتها هو ما يسمى في لغة الصوفية القدماء «وصف أحوال النفس»، وبلغة المعاصرين «المنهج الظاهرياتي». أي الأدبيات في موضوع المراجعة، الفحص والنقد لمعرفة الحالة الراهنة للموضوع The state of the art من أجل تجاوزه. وقد يأتي التجاوز الإبداعي أحياناً قبل المراجعة المدرسية.