&سمير عطا الله&&&

قبل أن يختم القرن العشرون نفسه، كان الجزء الأكبر من العالم قد خرج من أسر المعوقات: أميركا اللاتينية ودّعت الديكتاتوريات العسكرية، وسلكت طرق المصالحة والازدهار. وأوروبا تناست قرونًا من الحروب، واستكملت سبل الوحدة. وآسيا خرجت من عالم المستنقعات إلى حديقة النمور الاقتصادية. وأميركا الشمالية تقدمت في العلوم متخطية القارة القديمة بكل اختراعاتها وعلومها. وبقي في عالم الديكتاتوريات، نحن، وأفريقيا. وظل الرئيس رئيسًا مدى الحياة، والمواطن سجينًا مدى الحياة.

مرَّ بنا الازدهار ولم يتوقف. ومرَّ بنا التقدم وطُرد سريعًا. ومرت بنا العلوم، فاتهمناها بأنها سحر صهيوني. ولم ينجُ من هذه الأحكام إلا الذين فرّوا بأنفسهم إلى الخارج، فلم يكن وزير أحمد زويل ضابطًا في الشرطة، ولا مدير فاروق الباز مفوض الحزب الحاكم، ولا مدير مجدي يعقوب مدير الدعاية في الحزب.

العلماء الوحيدون الذين «نجونا» بهم هم الذين نجوا من عالمنا. دخل الرئيس حسين الحسيني إلى مستشفى «مايو كلينك» لإجراء فحوص، فجاء رئيس المستشفى يسلم عليه. وقال له، في كل هذا المستشفى ثلاثة أطباء من كل الهند، وعشرة أضعاف على الأقل من لبنان، جميعهم في أعلى وأهم مقامات الاختصاص.

الأطباء الذين بقوا في لبنان إما يترشحون إلى الانتخابات، وإما ينتسبون إلى أحزاب الثرثرة والوجاهة التافهة، وإما يعلكون ألسنتهم وأفكار سواهم. أرسلهم آباؤهم لتعلم «مهنة حرة»، فتعلموها ليستعبدوا بها، ويتحولوا إلى زمارين في مواكب شهود الزور.

لأنه ولد ودرس وعمل في أميركا، أصبح اللبناني مايكل دبغي أهم جراح قلب في الولايات المتحدة، من مرضاه بوريس يلتسين. وعاد الدكتور شارل مالك (27 دكتوراه) من نيويورك، حيث كان من أهم المشاركين في وضع وثيقة حقوق الإنسان، وكان أقصى طموحه أن يصبح نائبا عن قضاء الكورة، مسقط رأسه. ودفع يومها مبلغا هائلاً من المال لكي يشتري مقعدًا نيابيًا مضحكًا حتى في المقاييس اللبنانية.

سممتنا السياسة وتفاهاتها. الضابط أراد أن يصبح حاكمًا، والعالم حلم بأن يصبح عريفًا، والمفكر أن يصبح مخبرًا، والشعوب أن تصبح هتّافة. لذلك؛ نقطع القرن الحادي والعشرين ونحن نبحث عن أحلامنا بين الركام والأقدام. لم نعد نريد شيئا سوى السلامة، في أي مكان من الأرض. كانت أقل أحلامنا الوحدة، فصارت أهم آمالنا التأشيرة إلى أي مكان. عندما كنا صغارًا كان رسامو الكاريكاتير يصورون دائمًا «اليهودي التائه» باحثًا عن مكان وليس معه سوى «زوادته». الآن، من «إيلان» إلى «عمران». والسجع مجرد مصادفة، مثل المأساة.

&&