&غسان شربل&

من يعرف سورية في العقود الماضية يدرك تماماً هول ما أصابها. كانت حليفة لموسكو من دون أن تتحول وكيلاً سوفياتياً. وكانت تشاكس واشنطن من دون أن تغلق الباب معها. وكانت قريبة من إيران من دون أن تتجاهل الحضن العربي الذي يوفره لها المثلث السعودي- المصري- السوري.

كانت سورية لاعباً بارزاً على مسرح الشرق الأوسط. وكان لا بد من دمشق لدى البحث في مصير لبنان وأمن الأردن ومغامرات العراق ومحاولات السلام الفلسطينية - الإسرائيلية. كانت العقدة دائماً والمفتاح أحياناً. كانت القمم السورية - الأميركية تدرج في باب الأحداث الكبرى. لم تسلم سورية السابقة أوراقها لحليف أو صديق. وكان سر قوتها افتقار الخارج إلى أوراق داخل أراضيها للضغط على صاحب القرار فيها.

لنترك الماضي لأنه مضى. ولأن الحاضر لا يشبهه من قريب أو بعيد. ولأن استعادته تكاد تصبح مستحيلة. وللمرة الأولى في تاريخ سورية الحديثة يحق للمراقب أن يسأل أين سورية السورية العربية؟ إن جمع شظايا السيادة السورية من تحت الركام والأعلام قد يستلزم دهراً وأكثر.

ليست بسيطة المشاهد التي نراها. الدبابات التركية تتجول في جرابلس. وأنقرة تعلن أن غاراتها قتلت 25 من «العناصر الإرهابية» من «حزب العمال الكردستاني» و»حزب الاتحاد الديموقراطي». وليس بسيطاً أن تشيّع إيران علناً جنرالات سقطوا على خطوط التماس في حلب. وأن تقول المعارضة السورية أن الإصرار على إفراغ داريا من المدنيين أيضاً ينذر بتقدم برنامج التغييرات الديموغرافية. وأن على القرية المحاصرة أن تفاوض جنرالاً روسياً أو إيرانياً لتحديد مستقبلها. وأن جنرال حميميم استدعى ممثلي النظام والأكراد لفرض وقف النار في الحسكة.

ينكسر قلب العربي حين يدقق في المشهد السوري. في شرق الفرات ثلاث نقاط ارتكاز أميركية هي أشبه بقواعد صغيرة. وخبراء فرنسيون في عين العرب (كوباني). وغرب الفرات روس وأتراك. وفي الساحل السوري وجود مفتوح لقاعدتين روسيتين واحدة في اللاذقية وأخرى في طرطوس. وعند معبر التنف مع العراق يتولى أميركيون وبريطانيون تدريب «جيش سورية الجديد». وفي الجبهة الجنوبية تتولى الـ «سي آي أي» رعاية «الجيش السوري الحر». في حلب يقاتل إلى جانب النظام 18 فصيلاً وفد عناصرها من العراق ولبنان وإيران وباكستان وأفغانستان. في المعارضة المسلحة يمكن الحديث بثقة عن عشرات التنظيمات. وفي صفوف «داعش» إرهابيون جاؤوا من ثمانين جنسية.

مشهد استثنائي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. لم يكن أحد يتوقع أن تشهد الحارة السورية من «القرية الكونية» مذبحة بهذا الحجم. حروب سحق وتهجير واقتلاع في زمن العولمة والهواتف الذكية والصور الراعبة التي تشق طريقها سريعاً إلى الشاشات. مئات آلاف القتلى وملايين المهجرين وما زال جون كيري يذهب ويجيء ويعجز حتى عن إدخال المساعدات وتوفير الضمادات. تكاد سورية تغيب عن الخريطة ويواصل سيرغي لافروف متعة الاصطياد في بحيرة الدم. سيدخل دي ميستورا موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية. ففي ظل مهمته اغتنى بحر اللاجئين وقتل جيش من الأطفال. كآبة بان كي مون لن تغسل العار الذي يجلل منظمة العجز الدولي.

إلى هذه الغابة أرسل رجب طيب أردوغان دباباته. اعتقد دائماً أن الأكراد أخطر من «داعش». لن يقبل تطويق بلاده بأحزمة كردية أو إيرانية. يريد حضوراً ميدانياً على أرض «الرجل المريض» ليحضر لاحقاً على طاولة التفاوض. لعبته كثيرة الأبعاد. تقليم أظافر «داعش». وقطع أصابع الأكراد. طمأن روسيا وإيران وإسرائيل لكن يصعب على النظام السوري أن يشعر بالطمأنينة. التحرك التركي وفر لـ «الجيش السوري الحر» الذي جاء معه منطقة آمنة أو تكاد.

لا شيء يوحي أننا دخلنا الفصل الأخير. والحضور الميداني على الملعب السوري سيف ذو حدين. يعطيك ورقة ويهددك بالاستنزاف إذا طالت إقامتك. ويرجح أن تتعمق التدخلات قبل الانتخابات الأميركية. ويتهامس كثيرون اليوم أن سورية السورية قد قتلت. وأن الحل هو بتوزيع سورية بين المكونات ولو تحت تسميات خجولة. وتوزيعها أيضاً مناطق نفوذ للقوى الدولية والإقليمية. وهذا شديد الخطورة على سورية والمنطقة معاً.

يغضب السوريون من الحديث عن مصرع سورية السورية. لكنهم يدركون في قرارة أنفسهم أن المذبحة غيرت البشر والحجر. وأن من حق أي عربي محب لسورية أن يطرح سؤالاً وقحاً وبسيطاً هو: أين سورية؟