&صالح القلاب&&

لأن تخاذل هذه الإدارة الأميركية قد أرخى العنان لروسيا الاتحادية وجعلها تتصرف ليس كدولة كبرى فقط بل كدولة عظمى، فقد ساد انطباع بأنَّ هذه المرحلة، في الشرق الأوسط، مرحلة روسية كما كانت هناك مرحلة عثمانية ومرحلة فرنسية وبريطانية ثم أميركية، وبالتالي فإنه لا بد من «الاستسلام» لكل هذه المستجدات ولا بد من التلاؤم مع ما أصبح يعتبر واقع حال!!

وبالطبع فإن فلاديمير بوتين، الذي لا شك في أنه يعرف حقائق الأمور ويدرك أنَّ أوضاع روسيا الداخلية والإقليمية وأيضًا الدولية لا تؤهلها ولا تسمح لها أن تتمدد في هذه المنطقة كما تريد، قد بالغ كثيرًا في إظهار أن موسكو غدت مطلقة اليد في هذه المنطقة وأنها قادرة على فعل ما فعلته في سوريا في دول عربية أخرى وأيضًا في إيران وتركيا.

والحقيقة أننا إذا نظرنا إلى الأمور من خارج زاوية «الصعقات» السياسية والعسكرية التي لجأ إليها فلاديمير بوتين، إنْ في سوريا وإنْ في تركيا، فإننا سنجد أنَّ روسيا الاتحادية لم تحقق أي إنجاز «استراتيجي» فعلي وإن كل ما حققته هو مجرد «حركات أكروباتية» ستكون نهايتها قريبة، وأن أوضاعها الداخلية التي تعاني من أزمات كثيرة ستجعلها تعود أدراجها هرولة إلى الداخل مع الاحتفاظ بما يمكن الاحتفاظ به مما حققته حتى الآن والمقصود هنا هو قاعدة «حميميم» في سوريا.

كان ذهاب روسيا إلى إيران وإرسال قاصفاتها الاستراتيجية من همدان لتضرب في سوريا من أجل إظهار أن يدها غدت مطلقة في هذه المنطقة ومن أجل مزيد من إخافة بعض العرب وإفهام الرأي العام العربي بأن الروس غـدوا «قدر» هذا الشرق الأوسط كله وأن دول الاتحاد الأوروبي قد انكفأت على نفسها بعد ضربات بروكسل وباريس التي نسبت إلى «داعش» وأن باراك أوباما لم يعد يولي العرب ومنطقتهم أي أهمية فعلية وعلى أساس أن المصالح الحيوية الأميركية قد انتقلت إلى الشرق الأقصى.

إنَّ المقصود هنا هو أن فلاديمير بوتين قد لجأ إلى كل هذه الحركات الاستعراضية وهو يدرك ويعرف بل ومتأكد من أن «إنجازاته» هذه ستكون كلها في النهاية مجرد أحلام وهمية وأنَّ تركيا ستفلت من يده، إنْ عاجلاً وإنْ آجلاً، وأن إيران المتورطة في ألف مشكلة ومشكلة ستضطر في النهاية إلى وضع حدٍّ للعلاقات معه وأنها لن تجعله يقترب من العراق ليحقق فيه ما حققه في سوريا، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الانتصار في النهاية سيكون إلى جانب الشعب السوري وأن موسكو ستجبر على التخلي حتى عن «حميميم».

في عام 1991 بعدما تنازل ميخائيل غورباتشوف عن سلطاته الدستورية كلها للرئيس الروسي الجديد بوريس يلتسين تم إنزال علم الاتحاد السوفياتي، من فوق مبنى الكرملين للمرة الأخيرة في التاريخ ورُفع مكانه هذا العلم الحالي ذو الألوان الثلاثة فانحسر النفوذ السوفياتي عن كل الدول التي وصل إليها، إنْ في هذه المنطقة العربية وإنْ في غيرها، وهكذا، فقد انتهت مرحلة تاريخية من المستبعد بل من المستحيل أن تعود مرة أخرى فظروف وعوامل انتصار الشيوعية قد رحلت حتى قبل أن تحل الألفية الثالثة، وهي لن تعود إطلاقًا لا في هيئة أفضل ولا في هيئة مشوهة وأسوأ.

إنَّ أول بلد عربي دخله الاتحاد السوفياتي كعلاقات دبلوماسية وكتبادل سفارات وكعلاقات ثقافية واقتصادية وليس كقواعد عسكرية هو سوريا وكان ذلك في عام 1949 بعد أول انقلاب عسكري، الذي قام به الجنرال حسني الزعيم، وهنا فإنَّ المفترض أنه معروف أن الحرب الباردة في تلك الفترة كانت في ذروتها وأن صراع المعسكرات بين السوفيات والأميركيين قد اتخذ طابع المواجهة الساخنة، وإن هذا كله قد انعكس على الدول العربية حيث إن بعضها قد انحاز إلى الكتلة الغربية، في حين قد انحاز البعض الآخر إلى الكتلة الشرقية.

وهكذا فقد بقيت سوريا أقرب الدول العربية إلى الاتحاد السوفياتي، حيث كان هذا التقارب قد وصل إلى ذروته بعد حركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966 التي اعتبر نجاحها انتصارًا للجناح اليساري في حزب البعث على الجناح الآخر الذي اعتبر تقليديًا ويمينيًا، الذي ما لبث، بدوره، أن تسلم الحكم في العراق بانقلاب عسكري كانت واجهته أحمد حسن البكر وصدام حسين وأصبح نظامه محسوبًا على موسكو والكتلة الشرقية ولكن ليس بمستوى «التبعية» التي كانت دمشق قد وصلت إليها بالنسبة للعلاقة مع الدولة السوفياتية، وهنا فإن ما انطبق على سوريا كان قد انطبق على مصر الناصرية بعد إبرام صفقة الأسلحة التشيكية في عام 1955 وانطبق أيضًا على الجزائر بعد تحررها في عام 1962 وعلى دول عربية أخرى من بينها الصومال ولاحقًا اليمن الجنوبي.

لكن ما حصل لاحقًا هو أن الرئيس المصري أنور السادات قد أخرج الاتحاد السوفياتي من مصر طردًا قبل توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل برعاية أميركية، وأن الرئيس الصومالي زياد بري قد فعل الشيء نفسه، وأن اليمن الجنوبي قد تلاشى والتحق بجمهورية علي عبد الله صالح بعد انهيار التجربة السوفياتية كلها، وأن الجزائر بقيت تتسلح من روسيا وتقيم علاقات متينة مع احتفاظها بعلاقات وطيدة مع الولايات المتحدة ومع فرنسا ومع باقي الدول الأوروبية.

والمهم أن الاتحاد السوفياتي الذي أدى انهياره إلى فراغ كبير في هذه المنطقة لم يكن مكروهًا بمستوى كره الرأي العام العربي والإسلامي لروسيا الاتحادية ولرئيسها فلاديمير بوتين الآن بل إن العرب بصورة عامة كانوا يقدرون لـ«موسكو» السوفياتية مواقفها من القضية الفلسطينية ومساندتها الثورة الجزائرية ووقوفها إلى جانب مصر خلال حرب السويس 1956 وبنائها لسدِّ أسوان وتأييد ومساندة معظم حركات التحرر العربي، إنْ في آسيا وإنْ في أفريقيا.

كل هذا في حين كان الكره لروسيا الاتحادية بالنسبة للعرب كلهم ومن دون استثناء، وبخاصة على مستوى الشعوب، قد وصل إلى ذروته بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا وبعد وقوف موسكو بكل إمكانياتها إلى جانب نظام بشار الأسد ومشاركته، وليس مساندته فقط، في ذبح الشعب السوري وبعد كل هذا التحالف الشيطاني الذي أقامته مع طهران، ولذلك فإن المؤكد أن مغادرة الروس، التي من المفترض أنها باتت قريبة ولا بد منها، ستقابل بالأفراح والليالي الملاح، ويقينًا إن اليوم الذي ستتم فيه مثل هذه المغادرة سيعتبر عيدًا قوميًا كيوم تحرير الجزائر وكيوم انتصار مصر على العدوان الثلاثي.. وأيضًا كاليوم الذي أجبر فيه الخميني على: «تجرُّع السم الزعاف» يوم قبل مرغمًا بوقف إطلاق النار في حرب الثمانية أعوام التي كانت في حقيقة الأمر حربًا عربية - إيرانية.

&

&

&