&حازم الرفاعي


قد تكون السيدة هيلارى كلينتون صورة عصرية لأمريكا إذا ما اعتلت مقعد الرئاسة للقوة الأعظم فى العالم. ولكن دماء وأشباحاً تعترض مسارها إلى القمة. فمسار السيدة البارزة يبدو كما لو كان أصابه (تعقدٌ ما) بثلاث قصص متوازية: القصة الأكثر غموضا، والأقل إثارة هى قصة استخدامها بريدا إلكترونيا غير حكومى أو غير مشفر فى التعامل مع معلومات حساسة للدولة الأمريكية، والثانية هى دورها فى حادث مصرع السفير الأمريكى جون ستيفنز فى 11 سبتمبر 2012 فى بنى غازي؛ والقصة الثالثة هى ما يبدو أنها موافقتها على نقل غاز السارين من ليبيا بعد سقوط القذافى إلى سوريا.

السيدة كلينتون شخصية سياسية مخضرمة منذ مطلع شبابها. الشابة الأمريكية الجميلة والذكية وذات الطموح اللا متناهى رسمت مسارا لحياتها منذ عقود ينتهى فى سدة الرئاسة الأمريكية. طموح وجدية حملاها لتكون أول امرأة أمريكية تتنافس حول مقعد أبراهام لينكون. مارست السيدة كلينتون السلطة والنفوذ وسطوة اتخاذ القرار فلقد كانت وزيرة الخارجية الأمريكية بين عامى 2009-2013. وفى المنصب الرفيع كانت صاحبة فكر وتصور وصانعة قرار وشريكة أساسية فى صنع السياسة الأمريكية حول العالم وبالأخص فى ليبيا وسوريا. ولهذا فليس من الغريب أن تتعقب بعض المؤسسات السيادية والقانونية الأمريكية بعض قراراتها المخضبة بالغموض والدماء. ومن تلك قصة ودوافع استخدامها بريداً غير مشفر، أو غير خاضع لحماية ومتابعة المؤسسات السيادية الأمريكية ولقد تم استدعاؤها للتحقيق مرتين على الأقل آخرهما فى يوليو 2016، واستخدم الأمر كدلالة على استهتارها بسيادة المؤسسات الأمريكية.

لكن قصة البريد الالكترونى تتجاوز مجرد الالتزام بناموس العمل فى المؤسسات الأمريكية. ففى شهر يوليو صرح السيد (جوليان أسانج)، مؤسس الويكيليكس المحاصر أو المحدد الإقامة اختياريا فى سفارة الإكوادور بالعاصمة البريطانية لندن، بأن زملاءه حول العالم قد اقتحموا واكتشفوا رسائل إلكترونية تربط بين السيدة هيلارى كلينتون وتسليح الجهاديين أو المرتزقة الإسلاميين فى سوريا عن طريق صفقات فى عالم الظل بين موردى أسلحة أو قراصنة ليبيين والدولة الأمريكية. تصريحات مؤسس «ويكيليكس» ليست اكتشافات بل هى تأكيد لهمهمات أمريكية حول دور السيدة هيلارى أو معرفتها بشأن نقل أسلحة الجيش الليبى إلى تركيا فلقد تعرضت لتساؤلات مباشرة عن هذا الأمر فى لجنة العلاقات الأمريكية فى الكونجرس الأمريكى فى يناير 2013 حيث تعرضت لاستجواب جاد من (السيناتور الجمهورى بول راند) عندما سألها هل انتقلت أى أسلحة من ليبيا إلى تركيا أو أى بلد آخر؟

إذا تتبعنا الأمور لأعوام مضت، فقد كانت السيدة كلينتون فى عام 2012 قد أصرت على بقاء بعثة دبلوماسية أمريكية فى بنى غازى رغم خطورة أوضاعها لأسباب غير مبررة، إلا بأهمية الأمر للأمن القومى الأمريكي. وكان السفير الأمريكى فى ليبيا، تبعاً لما يقوله الصحفى الشهير (سيمور هيرش)، رجلاً معروفاً بأنه ممن لا يقفون فى طريق المخابرات الأمريكية وأنه تم اختياره لأنه يفتح الطريق للآخرين للعمل دون إثارة مشاكل أو بمعنى آخر ان دوره كان السماح او تسهيل انتقال الأسلحة من ليبيا الى سوريا.

الصحفى الأمريكى (سيمور هيرش) هو من أبرز الصحفيين الأمريكيين وتاريخه يمتد إلى حرب فيتنام. فاسمه ارتبط بكشفه للقسوة الأمريكية فى أثناء تلك الحرب فى صورة لطفلة فيتنامية عارية تهرب بنفسها من قصف النابالم لقريتها. وسيمور هيرش أيضاً حاصل على جوائز ضخمة ومتعددة لمصداقيته. ويتبنى الصحفى الأمريكى المخضرم رؤية أن (غاز السارين) الذى استخدم فى غوطة دمشق كان من ممتلكات الجيش الليبي، وأنه نقل إلى بلاد الشام بتمويل عربى وبموافقه هيلارى كلينتون ولقد نشر هذا فى أكثر من دورية منها مقال فى (لندن ريفيو أوف بوكس) فى 19 ديسمبر 2013. كان انتقال غاز السارين إلى سوريا هو بدايات إعداد مبرر للتدخل الأمريكى المباشر فى سوريا، وهو ما تلافاه أوباما، وما تم توثيقه بوضوح فى مقال (نهج أوباما) المنشور فى مجلة الأتلانتيك فى مارس 2016.

لم تحظَ البعثة الدبلوماسية الأمريكية فى بنى غازى بالحماية الضرورية، كما حدث مثلاً للبعثة الأمريكية فى بغداد التى بقيت فى المنطقة الخضراء، لأن تلك الحماية كانت ستستدعى دخول دوائر أمريكية أخرى قد تفسد ترتيبات نقل السلاح من ليبيا لسوريا. ترتيبات تتشابه مع فضيحة (الكونترا أو إيران جيت) فى نيكاراجوا فى الثمانينيات. كان الإصرار على وجود سفير للولايات المتحدة فى بنى غازى إذا مبررا فلقد كان للإشراف على نقل السلاح من ليبيا الى سوريا. نهاية مأساوية. فيبدو أن تجار السلاح غضبوا وانتهى الأمر بمصرع السفير الأمريكى وثلاثة أشخاص آخرين فى ليبيا فى تطور درامى خطير. لم يلقَ السفير مصرعه فحسب، بل إن السيدة كلينتون عجزت عن مساعدته أو الاستجابة لبرقيات الاستغاِثة لأكثر من 12 ساعة لأسباب غامضة، ربما تكون لأنها كانت تدير العملية بمعزل عن بقية المؤسسات الأمريكية.

السيدة هيلارى كلينتون اليوم هى أحد متسابقَين اثنين لسدة مقعد الرئاسة الأمريكية، ويرتبط اسمها بشعارات حقوق الإنسان وحرية التعبير والحريات المدنية لذلك فإن دائرة مؤيديها تمتد من خريجى الجامعات والمتعلمين وأبناء الأقليات و قطاع لا يستهان به من الدولة فهى سياسية متمرسة. ينافسها على مقعد الرئاسة السيد (دونالد ترامب) المعروف بجرأته وتجاوزه للمألوف فى الحوار. فهو يقدم نفسه كمرشح للتغيير وهو معبر عن اليمين الأمريكى ومن يوصفون بأنهم من (ذوى العنق الأحمر). السيد ترامب يدير حملته ضد اختطاف السياسة الأمريكية بالنخبة وأصحابها ولذلك فإن العلاقات مع الإسلام السياسى فى بؤرة المعركة حتى وإن أخذت بعدا عنصريا. لقد وصلت الأزمة السورية إلى ذرى تهدد الغرب كله فى تزامن مع أزمة اقتصادية طاحنة وتلطخ مزر بالدماء لأصحاب و رموز السياسات الليبرالية حول العالم.