&عبد الله المدني&

مما لا شك فيه أن زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي عهد المملكة العربية السعودية إلى بكين، هي ثمرة من ثمار التطور البناء والملحوظ في العلاقات السعودية – الصينية، الآخذة في الاتساع منذ عقد الثمانينات، أي قبل أن يتبادل البلدان التمثيل الدبلوماسي الكامل في عام 1990.

والمتابع لتطور هذه العلاقات يصاب بالدهشة لسرعته وتعدد مجالاته وآفاقه الواسعة، وخصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار أنه حتى منتصف ثمانينات القرن الماضي لم يكن هناك أدنى اتصال من أي نوع بين البلدين، على الرغم من محاولات بكين الدؤوبة منذ الخمسينات للوجود في منطقة الخليج وخاصة السعودية تحديدًا، باعتبارها البلد الأكبر والأقوى نفوذًا وتأثيرًا. ودليلنا هو أن بكين أوعزت إلى وسائل إعلامها الرسمية في منتصف الخمسينات أن تبرز دعمها للمملكة العربية السعودية ضد بريطانيا حول قضية البريمي، ثم أعادت الكرة في مطلع الستينات حينما ثمنت الموقف السعودي من الحرب الحدودية الهندية - الصينية في عام 1962. وكانت بكين قد حاولت قبل ذلك تنمية علاقاتها مع الرياض من خلال بحث شؤون الحجاج الصينيين، وذلك حينما طلب رئيس وزرائها الأسبق شو إن لاي عقد اجتماع على هامش مؤتمر باندونغ (1955) مع وزير خارجية المملكة آنذاك ورئيس وفدها إلى قمة باندونغ، الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز، الذي كان أميرا آنذاك.

لقد مرت سنوات طويلة دون أن يقترب البلدان من بعضهما بعضًا، ثم جاء النهج الإصلاحي في عهد الزعيم الصيني الأسبق دينغ هيسياو بينغ.

ويمكن القول إن هذا شجع الرياض على كسر حاجز الجليد الذي وقف طويلاً أمام استفادتها من إمكانيات الصين الكبيرة، فرأينا كيف أن المملكة لم تتردد في طلب السلاح الصيني، تحديدًا الصواريخ الباليستية، لتعزيز دفاعاتها الجوية في مواجهة أخطار الحرب العراقية - الإيرانية.

وفي اعتقادي أن هذه الواقعة مثلت نقطة الفصل بين تاريخ ماض وتاريخ حديث في علاقات البلدين؛ إذ سرعان ما تُوجت صفقة السلاح المشار إليها (بلغت قيمتها الإجمالية نحو 3.5 مليار دولار) بأمور كان من المستحيل توقعها قبل ذلك التاريخ ببضع سنوات. فعلاوة على ارتباط البلدين بعلاقات دبلوماسية كاملة، ظهر نشاط مكوكي في الاتجاهين تجسد في تبادل الزيارات الرسمية على مستوى الوزراء ونوابهم (بدءًا بزيارة وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل إلى بكين في سبتمبر/ أيلول 1990)، وإقامة المعارض التجارية وتأسيس جمعيات الصداقة وتشكيل اللجان الوزارية المشتركة حول التجارة والتعاون الاقتصادي والتبادل العسكري والتكنولوجي.

وقد أعطت الزيارة التاريخية للرئيس الصيني الأسبق جيانغ زيمين إلى الرياض في أكتوبر (تشرين الأول) 1999، وزيارة الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز (حينما كان وليًا للعهد) إلى بكين في عام 1998، ثم زيارته لها وهو ملك في عام 2006، وزيارة وزير الدفاع الراحل الأمير سلطان بن عبد العزيز إلى بكين في أكتوبر 2000، وزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى بكين في مارس (آذار) 2014 (حينما كان وليًا للعهد ونائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرًا للدفاع) دفعة قوية لعلاقات البلدين في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبرهنت على أن المملكة مهتمة أكثر من أي وقت مضى بتنويع تحالفاتها الاستراتيجية وإغراء قوى عالمية جديدة بلعب دور أكثر حيوية، فيما يتعلق بضمان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج والشرق الأوسط. ومن هنا لم يكن غريبًا مطالبة الراحل الكبير الأمير سعود الفيصل في حوار المنامة في عام 2004 بأن يكون للصين دور في أي ترتيبات أمنية مستقبلية في المنطقة.

وعلى هامش كل هذه التطورات راحت التجارة البينية بين البلدين تقفز قفزات كبيرة وتتنوع وارداتها وصادراتها؛ إذ تضاعف التبادل التجاري بين البلدين عشر مرات خلال الفترة من عام 2003 إلى عام 2014، فقفز من 24.6 مليار ريال في 2003 إلى 247.8 مليار ريال في 2014، علمًا بأن الصين تمثل اليوم أكبر شريك تجاري للسعودية التي استطاعت أن تسجل فائضًا لمصلحتها في الميزان التجاري بين البلدين بنحو 73.6 مليار ريال. وتشير الإحصائيات المتوفرة إلى أن السعودية تعتبر اليوم أكبر مصدر للنفط إلى الصين، وأن صادرات النفط السعودي إليها تجاوزت الأرقام الخاصة بالولايات المتحدة.

ونظرًا لازدياد حاجة الصين إلى النفط والغاز والبتروكيماويات، وحرص المملكة على الاستثمار في المشروعات ذات الصلة بتمتين مركزها بوصفها مزودًا رئيسيًا للنفط ومشتقاته إلى الصين، نرى أن الجانبين متحفزان للدخول في شراكات استراتيجية في مجال الطاقة؛ ففي عام 2004 مثلاً استثمرت «أرامكو السعودية» في الصين نحو 3 مليارات دولار لبناء منشأة للبتروكيماويات يمكنها معالجة 8 ملايين طن من الخام السعودي وذلك في مقاطعة فوجيان. وفي عام 2006 اتفق البلدان على بناء منشأة لتخزين النفط في جزيرة هاينان بقيمة 624 مليار دولار. وفي عام 2010 كشفت شركة «سابك السعودية» عن خطة لاستثمار ما قيمته مائة مليون دولار في إنشاء مركز للتكنولوجيات الحديثة بالقرب من مدينة شنغهاي. وفي عام 2012 أيضًا تم تدشين شركة «ينبع أرامكو سينوبك» (ياسرف) وهو مشروع مشترك بين «أرامكو السعودية» و«سينوبك الصينية» مقره مدينة ينبع غرب السعودية، وتملك الأولى فيه حصة 62.5 في المائة، بينما تملك الثانية نسبة 37.5 في المائة، وغرضه معالجة الزيت العربي الثقيل المستخرج من حقل منيفة السعودي العملاق عبر مصفاة ضخمة تبلغ طاقتها التكريرية 400 ألف برميل يوميًا، وتوفر آلاف فرص العمل للمواطنين السعوديين.

يضاف إلى كل هذا، الحدث المهم الأول من نوعه في تاريخ السعودية، ألا وهو توقيع الرياض وبكين في السابع من مارس 2004 اتفاقية تسمح الرياض بموجبها لشركة «سينوبك» SINOPEC الصينية العملاقة بالتنقيب عن الغاز الطبيعي وإنتاجه في مساحة تصل إلى 40 ألف كيلومتر مربع من صحراء الربع الخالي، علما بأن «سينوبك» أكبر منتج ومسوق لمنتجات النفط المكرر في الصين وعموم آسيا، وثانية كبرى الشركات الصينية العاملة في مجال التنقيب عن النفط والغاز في الصين من بعد مؤسسة النفط الوطنية الصينية CNPC، وأول شركة صينية يدرج اسمها في بورصات هونغ كونغ ولندن ونيويورك وشنغهاي، ناهيك عن ملكية للدولة الصينية لها مما يتيح لها دعمًا رسميًا خارج نطاق المعايير الاقتصادية.

ولا ننسى، ونحن نتحدث عن تطورات التعاون السعودي الصيني في المجالات المختلفة منذ ارتباط البلدين بعلاقات دبلوماسية في يوليو (تموز) 1990، أن البلدين وقعا في يناير (كانون الثاني) 2012 صفقة لزيادة التعاون النووي بينهما للأغراض السلمية، وهو ما يمهد الطريق أمامهما للدخول في تعاون أوسع يشمل المجالات العلمية والتكنولوجية وحقول تطوير محطات الطاقة النووية ومفاعلات الأبحاث. كما لا ننسى أن الصين صارت قبلة لآلاف الطلبة السعوديين الذين يتلقون العلم النافع في معاهده وجامعاته بموجب برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي.

ويمكن القول إن هناك مزيدًا من الآفاق الرحبة لتمتين العلاقات السعودية - الصينية أكثر فأكثر ونقلها إلى مستويات أرفع، طالما أن الضيف الزائر الأمير محمد يقود اليوم مشروعًا غير مسبوق لتنويع اقتصاد بلده ووضعه على طريق الأمم الصاعدة، وطالما أن الصين لديها أيضًا مشروع «طريق الحرير» الذي أطلقته في عام 2013 تحت اسم مبادرة «حزام واحد، طريق واحد» بهدف تمكين منشآتها وشركاتها العامة والخاصة من الاستثمار والعمل في 65 دولة في آسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط من تلك الواقعة على هذا المسار، بل وأسست لهذا الغرض «صندوق الحرير» برأسمال 40 مليار دولار، إضافة إلى تأسيسها للبنك الآسيوي للاستثمار برأسمال 500 مليار دولار، دفعت منه مائة مليار وذلك للإنفاق على المبادرة، حيث بإمكان المملكة أن تحقق فوائد اقتصادية وجيوسياسية جمة من المبادرة الصينية، وخصوصًا أنه يتوفر لها ما لا يتوفر لغيرها. فهي مثلا أكبر مصدر للطاقة في العالم، وتملك موقعًا جغرافيًا مهمًا على مسار الطريق، وهي الأقل من جهة المخاطر التشغيلية بسبب استتباب أوضاعها الداخلية، ناهيك عن وجود استثمارات متبادلة بينها وبين الصين منذ أعوام في قطاعات الطاقة والاتصالات والإنشاءات وغيرها، ووجود الآلاف من طلبتها في الجامعات والمعاهد الصينية، وهذا طبعًا يجسد جزءًا من المشهد الثقافي للمبادرة.

&

&&&

&