&صفقة أوباما النووية عطلت مفاعيل القرارات الدولية ضد إيران

راغدة درغام

تحذّر إدارة أوباما بصوت خافت من وصول صفقتها المفترضة مع الحكومة الروسية إلى نقطة حاسمة، لأن صبرها بدأ ينفد إزاء تحايل وتراجع ووعود عائمة تتلقاها في شأن سورية. إنما التناقض واضح بين وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر الذي يشكك في النيات الروسية وراء الصفقة العسكرية ويراها بعيدة المنال، ووزير الخارجية جون كيري المتشوق دائماً لمصافحة أخرى وابتسامة واعدة مع نظيره الروسي سيرغي لافروف. وهذا جزء مما يجعل الديبلوماسية الروسية واثقة من استمرار تردد أوباما وضعفه في صنع القرار التنفيذي الأميركي، ما يمكّنها من الاستمرار في الرهان على الوهن الأميركي وعدم جدية الإنذار. الجزء الآخر من أسباب الثقة الروسية بأن أوباما لن يتحلى بالإقدام في الشهور الأخيرة من رئاسته، بالذات في الساحة السورية، لا يقتصر على الوعد القاطع بأن القوات الأميركية لن تتورط في الحروب البعيدة، وإنما يشمل أيضاً العنصر الإيراني. فلقد كبَّل أوباما يديه بنفسه عبر الاتفاق النووي مع إيران، وبات يخشى على الاتفاق من أي اهتزاز، ما أدّى به إلى السكوت عن الأدوار الإيرانية الإقليمية وأبرزها التحالف الإيراني مع نظام بشار الأسد الذي قال أوباما يوماً أن عليه الرحيل، ثم عاد وتراجع عن ذلك الخط الأحمر.

المحور الذي يضم روسيا وإيران والنظام في دمشق و «حزب الله» والميليشيات الأخرى التي تدعمها طهران وتمولها وتدير عملياتها في سورية، محور واثق من أن أوباما لن يتحدى ما تقوم به إيران في سورية بل سيستمر في التظاهر بأنه لا يرى ولا يسمع، وواثق أن أوباما لن يفرّط بـ «الشراكة» الأميركية – الروسية في سورية. تلك الثقة العارمة وصلت درجة مفرطة أحرجت الرئيس الأميركي الانعزالي، لا سيما في ضوء استمرار النظام في القصف بالبراميل المتفجرة واستخدام الأسلحة المحظورة، بغطاء جوي روسي. إثبات التحقيق الدولي أن الجيش السوري النظامي استخدم الأسلحة الكيماوية مرتين في أعقاب الاتفاق الأميركي – الروسي على تدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية، أثار غضب إدارة أوباما. إنما ما زاد الإهانة إلى الجرح كان قرار روسيا شن هجوم ديبلوماسي وتقني في مجلس الأمن عبر سفيرها فيتالي تشوركين دفاعاً عن النظام، الأمر الذي ترك حلفاء واشنطن الغربيين في اختلاف مع استمرار التلكؤ الأميركي في مواجهة روسيا في مسألة بأهمية وخطورة غض النظر عن استخدام جيش نظامي أسلحة كيماوية محظورة. أجساد أطفال سورية المرتعشة بحروق تلك الأسلحة سلّطت الأضواء على المأساة السورية شأنها شأن ما أسفرت عنه الغارات الروسية بمساعدة الميليشيات الإيرانية، إنما ليس لدرجة انتفاضة ضميرية شعبية. التركيز الآن سيبقى على ضرورة تدمير إرهاب «داعش» وأمثاله وهو بدوره استخدم الأسلحة الكيماوية. لكن واشنطن لن تتمكن من المضي في دفن الرأس في الرمال انصياعاً للرغبات الروسية أو لمتطلبات الصفقة النووية الإيرانية، وأوباما لن يريد الخروج من الرئاسة وسط استهزاء قادة الدول بضعفه ووسط صراخ أطفال سورية. فإذا فرطت الصفقة المفترضة مع روسيا، فإن الأبواب التركية التي يشرّعها رجب طيب أردوغان قد تكون وسيلة إبلاغ موسكو بأن الكيل طفح وأن إدارة أوباما قادرة على المفاجأة.

مرشحة الحزب الديموقراطي للرئاسة هيلاري كلينتون اتهمت موسكو بالتدخل في الانتخابات الرئاسية عبر هجمات إلكترونية استهدفت الحزب الديموقراطي ووصفتها بأنها «تهديد لا سابق له من قوة أجنبية في عمليتنا الانتخابية يتعامل معه مسؤولو استخباراتنا بجدية كبيرة». أوباما أيضاً يأخذ هذا الأمر بجدية لأن الحزب الديموقراطي هو حزبه، وهو قادر على وضع حد للتجاوزات الروسية في سورية وفي أوكرانيا وغيرهما، لو شاء. إلى الآن، قرار أوباما اتخاذ إجراءات هنا وهناك في ملف أوكرانيا أثار حفيظة سيرغي لافروف وأطلق لسانه ضد إجراءات العقوبات الأميركية على روسيا وضد إدارة أوباما.

أما في المسألة السورية، فباراك أوباما بقي متحفظاً، متردداً، خائفاً، هارباً إلى الأمام. تركته في سورية ستتحكم بتركته التاريخية مهما أنجز في كوبا من انفتاح أو حقق في إيران في صفقة نووية دوامها فقط عشر سنوات. سياساته نحو سورية جعلت «حائطه واطياً» فتجرأت الصين على استقباله أسوأ استقبال أثناء قمة العشرين، فنزل من الطائرة بلا سجادة حمراء، وتجرأ رئيس الفيليبين على نعته بأوصاف مدهشة، وتجرأ قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، قاسم سليماني، على إدارة عمليات الميليشيات والحشود الشعبية في سورية والعراق، والسفر إلى روسيا وغيرها رغم قرارات منعه من السفر. فلقد ألغت صفقة أوباما النووية مفعول القرارات الدولية التي كانت حظرت على طهران تصدير الميليشيات والسلاح إلى دول أخرى، فأعطتها حرية التدخل العسكري في سورية والعراق ولبنان واليمن بلا محاسبة.

تهميش بنية الدولة وجيشها لاستبدالها بالميليشيات وجيش النظام والحشود الشعبية، بات العرف في منطقة الشرق الأوسط، وهذا أخطر ما يحدث بالذات في الدول العربية. والآن، هناك جديد في مسيرة الميليشيات وتجييش الأطفال. فإلى جانب «أطفال داعش» الذين يُدرّبون على القتل والنحر والانتحار والعقائد الإرهابية، برزت ظاهرة «نساء الميليشيات» الحوثيات وهنّ مدجّجات بالسلاح النافذ من نُقبُهنّ من الرأس إلى القدم. العرض العسكري النسائي للميليشيات في إحدى مدارس صنعاء أتى، في رأي البعض، كدليل على نقص المقاتلين في صفوف الميليشيات الحوثية. لكن الظاهرة أخطر بكثير لأن التقارير تشير إلى خسارة كبيرة في الميليشيات الشيعية التي تديرها إيران في سورية، قد تستلزم تجنيد النساء في الميليشيات هناك أيضاً.

دور النساء الضروري للمنطقة العربية ليس في التحاقهن بالميليشيات، وإنما في علاج الأطفال الذين يدفعون ثمن تمادي جهل الرجال وسلطويتهم الدموية. وكالة «اليونيسيف» أصدرت تقريراً يفيد بأن هناك 28 مليون طفل مهجر بسبب النزاعات المسلحة في العالم، ومعظمهم في المنطقة العربية. هناك 20 مليون طفل خارج منازلهم ضحية الفقر والعصابات.

أولئك الرجال الذين يلعبون لعبة التموضع عالمياً عبر الرقعة السورية كثر، أبرزهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان إلى جانب القيادة الإيرانية التي أوكلت إلى قاسم سليماني مهمة التموضع ميدانياً، وتركت لوزير الخارجية محمد جواد ظريف ديبلوماسية الابتسامة العريضة لإتمام مهمة تضليل واشنطن والأمم المتحدة معها.

الأمانة العامة للأمم المتحدة وقعت في الفخ وقررت شرعنة دور إيران الميداني في سورية عبر بوابة الديبلوماسية. عملياً، أضفت الأمانة العامة بقيادة بان كي مون على إيران شرعية دورها العسكري في سورية المتمثل في «الحرس الثوري» والميليشيات المستوردة للقتال لمصلحة النظام في دمشق الذي قال بان كي مون يوماً عنه أنه يجب أن يحاسب على جرائم الحرب التي ارتكبها وأنه فقد الشرعية. فعلياً، باركت الأمم المتحدة طموحات طهران التوسعية في الدول العربية وأجلستها إلى طاولة التفاوض على مستقبل هذه الدول مكافأة لها على إنجازاتها العسكرية الميدانية فيها، حتى عندما حققتها بخرق واضح لقرارات مجلس الأمن الملزمة، وقبل أن تأتي الصفقة النووية لمحو هذه القرارات. بان كي مون نصب نفسه جزءاً من تلك المهمة والمعادلة تلبية للرغبات الأميركية، وهو يغادر منصبه بعد ولايتين بلا التركة التي تمنى أن ترافقه وهي: إنهاء الإفلات من العقاب. بان كي مون وقع في فخ تحويل المسألة السورية إلى حرب على «داعش» فيما كان عليه أن يتذكر وأن يذكّر بالقصة السورية من أوّلها.

أما فلاديمير بوتين فإنه ليس جاهلاً بما يفعله في سورية. إنه يعرف تماماً ما يفعل، ومَن يَدفع الثمن، وإلامَ يصبو، وكيف سيضمن تموضعه الاستراتيجي، ومع مَن سيتحالف عابراً، وعمّن لا يمكن أن يستغني.

عدوه الحميم وصديقه اللدود رجب طيب أردوغان يلعب أوراق السلطان بما لا يعجب القيصر الذي يعتبر نفسه أهم وأقوى وأكثر قدرة على الإملاء في الساحة السورية الضرورية لطموحاته السلطوية داخل روسيا وفي الشرق الأوسط وعلى صعيد علاقاته الأميركية. أردوغان يتصرف لإبلاغ كل مَن يعنيه الأمر بأن لديه أدوات ليست متوافرة لغيره وأنه جاهز للعب جميع الأوراق مع كل جاهز للانخراط معه. بوتين ينصحه بعدم «تعقيد الوضع» في سورية.

معركة حلب ما زالت مصيرية لجميع هؤلاء الرجال – بوتين وأردوغان وسليماني والأسد – وهذا أمر بدأ باراك أوباما إدراك أهميته. لذلك، تحذّر إدارة أوباما روسيا اليوم بصوت خافت لتلمّح لها إلى أن أمامها الخيار التركي بعدما دخلت تركيا طرفاً مباشراً في الحرب السورية وأحيت «الجيش الحر» وأمثاله من المعارضة المسلحة المعتدلة.

صفقة التعاون العسكري الأميركي – الروسي واردة، بسبب استحالة استمرار الوضع الراهن في سورية وازدياد حاجة روسيا إلى الخروج من ورطة المستنقع السوري الذي يتربص بها. الثنائي كيري – لافروف مستمر في النحت لعل الصفقة ترى النور، لكن تفاصيل المطالب الروسية قد تجعلها بعيدة المنال، وربما مستحيلة. ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمين العام إلى سورية، يتموضع تكراراً بين الثنائي وينصب نفسه أحياناً قناة مسهلة للتفاهم بينهما.