&عادل درويش&

رئيسة الوزراء تريزا ماي جمعتنا - الصحافيين البرلمانيين - يوم الجمعة، وكنا أقلية بين غالبية الحضور، وهم اختصاصيو التعليم من المدارس العامة والمدارس الخاصة (المعروفة بالمستقلة) ومدارس الطوائف الدينية، وكل من له علاقة بالتعليم، لتعلن برنامجًا جديدًا لمنح الفقراء فرصة تسلق السلم الاجتماعي، في أمة لا تزال الملامح الطبقية بألوانها المتوارثة من عهود الإقطاع تصبغ وجه مجتمعها في القرن الحادي والعشرين.

الطبقية في بريطانيا لا تتحدد خطوطها الفاصلة، كحال معظم بقية بلدان العالم، بمقاييس مادية ومالية، حيث الطبقة العليا هم من الأثرياء، بينما الفقراء من الطبقات العاملة.

فمثلاً، السباك الذي يتقاضى من بروفسور الجامعة في نصف يوم عمل لإصلاح نظام التدفئة في بيته ما يفوق دخل البروفسور لستة أشهر، والميكانيكي الذي يصلح سيارة صدئة متهالكة لصاحبها المؤرخ أو الشاعر حامل الدكتوراه، سيارته «مرسيدس» أو «بورشه»، وثروته عشرة أضعاف ثروة الزبون حامل الدكتوراه. وبعكس أميركا، يصنف الزبون الفقير، البروفسور أو الكاتبن على أنه «طبقة متوسطة» يعامله رجل البوليس باحترام، بينما السباك والميكانيكي البالغ الثراء يعتبر «طبقة عاملة» يُغشى على والد الفتاة، إذا عرف أن ابنته وقعت في غرام أي منهما. الفارق هو التعليم، والتعليم وسيلة صعود السلم الطبقي، وهي الرسالة التي أرادت رئيسة الوزراء، المسز ماي، إيصالها للأمة.

المؤتمر الذي دعينا إليه، وكنا - الصحافيين - أقلية، بدأته وزيرة المعارف، جستين غرينينغ، في الصباح بكلمة من خمس دقائق، ثم قدمت رئيسة الوزراء للحضور. وزيرة المعارف نفسها تعلمت في مدارس الدولة المجانية، وهي من طبقة ريفية متواضعة. وحسبما تقول، هي الأولى في عائلتها التي تتلقى التعليم الجامعي. كانت وزيرة لشؤون التنمية الدولية وإعانات البلدان الفقيرة في حكومة كاميرون، لكن مسز ماي نقلتها لتولى وزارة المعارف، في إطار برنامجها لنشر العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص بالجدارة والمثابرة، لا بالثروة والمال (الثري wealthy صاحب الممتلكات، والغنى rich من في جيبه أو حسابه سيولة مالية قابلة للإنفاق)، حيث تتفاخر غرينينغ بأصولها المتواضعة، ومثابرتها كأول من يدخل الجامعة من عائلتها، وبالتالي تكون قدوة للتلميذات بأن الاجتهاد والتحصيل هو طريق النجاح، وليس «ثروة بابا».

رغم احتشاد كبار اختصاصيي التعليم، فإن رئيسة الوزراء أجابت عن أسئلة من الصحافة فقط، وليس من الحضور، خصوصًا من مراسلي التلفزيون، في أول خطبة عمومية تعلن فيها سياستها، أي توجه رسالة للأمة.

مسز ماي تريد من بريطانيا، كأعرق ديمقراطية، أن تصبح أيضًا meritocracy أو الجدارية أو الجدارة كترجمة غير دقيقة، فالكلمة مركبة ككلمة الديمقراطية من «demos» أي: عموم الناس، و«kratos» أي: سلطة، و«demo - cracy» أي: سلطة العموم أو الشعب. الكلمة الإنجليزية - اسمًا وفعلاً - merit تعني: جدير، أو يجدر بـ، أو جدارة أي شيء ينفذه، أو يقع، أو يستحق النشر أو الترقية، بلا أي دعم أو عامل مساعد آخر. كلمة وفعل من خمسة حروف، لكنها حبلى بالمعاني، والصحف تعد مجموعة أخبار تحت بند merit، أي: يقفز أي منها لصدارة الصفحة، إذا كان جديرًا لمضمونه ووقعه على اهتمام القارئ. وإذا أضفنا cracy، المشتقة من kratos، ويعنى المضمون سيادة الجدارة، وربما تقريبًا للذهن العربي: مبدأ تكافؤ الفرص عن طريق الجدارة، بينما أصحاب المناصب والنفوذ حاليًا هم من خريجي الجامعتين العريقتين أكسفورد وكمبردج اللتين تغذيان بتلاميذ من مدارس الطبقات الأرستقراطية والأثرياء كـ«إيتون» و«هارو».

لكن مشروع الزعيمة ماي لنشر سيادة تكافؤ الفرص عن طريق الجدارة والاستحقاق، سيواجه عوائق ومعارضة في البرلمان، حتى لو صوت مجلس العموم بقبوله (أغلبية الحكومة بعدد أصابع اليد)، فغالبًا سيرفضه مجلس اللوردات، حيث الحكومة أقلية، لا أغلبية.

ماي متهمة بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء بمشروع إلغاء قانون حظر إنشاء مدارس قواعد اللغة grammar schools، والاسم مجازي يعود إلى القرون الوسطى، لأنها كانت تدرس الكلاسيكيات واللغة اللاتينية ذات القواعد الأكثر صرامة. مدارس تركز على التحصيل الأكاديمي أكثر من النشاط الاجتماعي، لكنها مدارس بامتحان قبول في سن الحادية عشرة، ونظار وناظرات المدارس يحافظون على مستوى تعليمي مرتفع، بينما ظهر بعد الحرب ما يعرف بالثانوية المودرن، أو المدارس الحديثة، والتركيز فيها على الاندماج الاجتماعي والنشاطات الأخرى قبل التحصيل.

حكومة العمال في السبعينات أصدرت قانونًا بمنع افتتاح أي مدارس غرامر. حجة العمال آيديولوجية، وهي تعريض التلاميذ لامتحان قبول، وبالتالي فهي تقسمهم إلى تلميذ «شاطر» وآخر «بليد»، مما يخلق انقسامات، ويؤثر معنويًا على الأطفال. ومثل أصحاب الآيديولوجيات الاشتراكية في أي مكان، العمال يريدون مساواة الجميع في الفقر والاعتماد على الدولة وانخفاض مستوى التعليم.

رئيسة الوزراء ووزيرة المعارف دافعتا عن إلغاء قانون منع إنشاء المدارس الذي أصدره العمال، والسماح بنشر مدارس الغرامر، لأن مدارس الثانوية الحديثة التي تحقق نتائج جيدة يتهافت عليها أولياء الأمور، مما يؤدي إلى ارتفاع أثمان وإيجارات المساكن المحيطة بها، وبالتالي تصبح بدورها حكرًا على القادرين، بينما مدارس مناطق الفقراء يستمر مستواها في الانخفاض، ويهجرها المعلمون ذوو القدرتين التدريسية والتربوية إلى مدارس خاصة، أو مدارس المناطق الثرية.

مسز ماي تريد التوسع في مدارس الغرامر، لتكون أيضًا في مناطق الفقراء، فإحياء حلم التطلع أعلى السلم الاجتماعي سيدفع الأسر إلى الدفع بأطفالهم للتحصيل، واجتياز امتحان القبول. وهي تدرك أن أمامها معركة سياسية كبيرة في البرلمان، خصوصًا أن الـ«بي بي سي» والصحافة المؤثرة اليسارية الطابع بدأت الحملة ضد المشروع، قبل أن تعلن عنه رئيسة الوزراء بأربع ساعات.

الدرس هنا أن الزعيمة لم تلجأ إلى مشروع تدعمه الصحافة، ويروج شعبيتها، ويجنبها «وجع الدماغ»، بل تعد لمعركة بمشروع مثير للجدل (ويتحدى ما اعتبر من المحرمات لأربعين عاما) لتجربتها الشخصية التي أتاحت الفرصة لحفيدة شاويش في الجيش، وابنة قس بلا ثروة، أن تصبح رئيسة حكومة أعرق ديمقراطيات العالم.

الزعيمة البريطانية تعود أربعين عامًا إلى الوراء لتصحيح انعطاف مسيرة التعليم في الطريق الخطأ.

العقلاء يرجعون معظم المشكلات التي تعصف ببلدان كمصر، بما فيها ظهور الإرهاب وتيارات كـ«الإخوان المسلمين»، إلى عجز نظام تعليمي يجعل الثقافة والمعرفة والعقل الإنساني يقاوم ثقافة واردة مفعمة بالكراهية، الانعطاف في طريق التيه يعود إلى كارثة انهيار التعليم بخطأ النظام الناصري الفادح عام 1958، بتدمير وزارة المعارف (بمفهوم رفاعة الطهطاوي وطه حسين) إلى التربية والتعليم (المفهوم الشمولي، لا المعرفي)، والمطلوب هنا الاقتداء بنموذج الزعيمة البريطانية.

فليس من المحرمات التعرف على أن المسيرة على طريق خطأ، ومن الحكمة العودة إلى تقاطع الطرق 1958، وأخذ المنعطف الصحيح.

&&

&