شتيوي الغيثي&&

&لا تكفي دعاوى الحفاظ على الهوية كحجة تنغلق من خلالها الهويات على نفسها ولا تستطيع التعايش مع الآخر المختلف، فالتفوق العلمي والتطور الثقافي لا علاقة لهما بإشكالية الحفاظ على الهوية

وفود المبتعثين السعوديين في الشرق والغرب بدأت بالعودة إلى الديار منذ أكثر من ثلاث سنوات أو أربع، وأكثر تلك الوفود كانت من فئة الشباب، وقليل من استفاد منها من فئة الكبار أو ما بعد الثلاثين إلا أنها شكلت عملية تحديث فكري لغالبية شباب المجتمع السعودي، فالوفود كانت ضخمة وتعتبر من أكثر الوفود على مستوى العالم في السنوات العشر الأخيرة حتى يقال إن في الفصل الواحد في دراسة الإنجليزي من الممكن أن يتحول الفصل بالكامل إلى سعوديين وسعوديات واثنين أو ثلاثة من جنسيات أخرى، حتى صار من قبيل النكتة أن الطالب غير العربي الذي جاء ليتعلم الإنجليزية أو حتى مدرسو ومدرسات الإنجليزي يضطر إلى تعلم العربية، أو بعض الكلمات منها، مع أن الهدف هو تعلم أو تعليم الإنجليزية بحكم حجم وكثرة السعوديين.

تلك الوفود الغفيرة كان لا بد لها من أن تتأثر أو تؤثر في المجتمعات الأخرى بشكل أو بآخر، على الأقل على المستوى العلمي، إذا لم يكن هناك تأثر على المستوى الاجتماعي، أو تأثر على المستوى الفكري، وأتصور - أو هكذا يفترض - أن المبتعث لا يعدو أن يستفيد من واحد من تلك الجوانب العلمية أو الاجتماعية أو الثقافية، لكن المشاهد أن عددا كبيرا مازال كما هو لم يستطع الخروج من إشكالياته التي ذهب بها.

لا توجد إحصائيات واضحة، غير أعداد المبتعثين بالطبع، عن حجم المستفيدين أو مدى استفادتهم من الابتعاث في كافة الجوانب، ولا توجد بيانات واضحة تدل على النشاطات الثقافية، أو الاجتماعية، أو العلمية التي يمارسها الشباب السعودي في الملحقيات الثقافية، ولعل هناك بيانات محفوظة لدى الملحقيات -لا أدري- لكنها ليست ظاهرة للناس ولا للصحافة، ولذلك كل ما نعرفه عن حياة الشباب والشابات هناك أنهم يدرسون ويتم الصرف عليهم كثيرا أملا في جودة المنتج العلمي والثقافي لاحقا، لكن الإشكالية تبدأ في الفرز الذي يحصل قبل خروجهم إذ خرج عدد من الشباب الذين لم يكن همهم العلم ولا الدراسة، ولذلك دخلوا جامعات عادية في تصنيفها، لذلك كان تأثرهم العلمي محدودا فضلا عن الإشكاليات الاجتماعية التي لم يستطع بعضهم التعايش معها، فصنعوا عزلة اجتماعية إلى درجة أنه من السهولة بمكان أن تجد برجا سكنيا لا يسكنه بالكامل إلا السعوديون بكل قيمهم وثقافتهم وعاداتهم الاجتماعية التي جاؤوا منها، وفي أرقى الأماكن في المدن الكبرى ويبقى احتكاكهم مع الآخرين محصورا في الدرس العلمي الذي هو عادة لا يتجاوز الحديث فيه أطرا أخرى غير الإطار العلمي للدرس، ولذلك تصعب عملية التطور الفكري في غير المجالات العلمية ومن السهولة في هذه الحالة أن تجد شابا أو شابة متفوقا علميا في دراسته، لكنه فقير معرفيا في الجوانب الحياتية والثقافية وفقير في النشاط الثقافي مع الآخرين إلا من كانت لديه القابلية قبل الخروج وهم قلة، فضلا عن الازدواجية الثقافية بين التمسك بالعادات والانخراط مع ملذات الحياة التي توفرها الدول خارج الحدود. ولذلك يمكن من السهولة أن تجد من يشرب البيرة لأنه وجد فيها "فتوى" أو من يشرب الخمر ويشدد على أصدقائه في المطاعم بالانتباه إلى نوعية اللحم حتى لا يفاجؤوا بأنهم أكلوا لحم خنزير، وهذه المشاهد ملاحظة بكثرة عند العرب سواء كانوا سائحين أو طلاباً أو تجد من يمازح النساء الغربيات، لكنه يكشر ويتحفظ في الحديث مع السعودية، وبعضهم يتهم غير المحجبة بالفسق والفجور، أو من تجده يصف غير المسلمين بأوصاف بذيئة لا يليق التلفظ بها مطلقا وفي كل الأحوال، في حين هو يأخذ العلم عنهم في كافة العلوم، ويتعامل معهم تعاملاً جيداً، وكأنه نسي أنه وصفهم بأوصاف سيئة قبل أقل من عشر دقائق، أو تجد بعض الشباب من يستغل ثغرات النظام العام لصالحه ويقوم بالتلاعب والغش لكي يسير أموره على الرغم من أن أموره ليست بتلك الصعوبة التي يتخيلها لو أنه سار وفق النظام مثله مثل غيره أو أن تتحول أنشطة الطلاب في الأندية الطلابية في الملحقيات الثقافية (بعضها بالتأكيد وليس كلها) إلى أشبه بمراكز صيفية تمارس فيها بعض الأنشطة التي تمارس في السعودية ولا تمثل فكرة الابتعاث.

كل تلك المشاهد أو كثير منها من السهولة بمكان أن تلاحظها لدى عدد كبير من المبتعثين، الأمر الذي شكل ظاهرة مما يجعلنا نتساءل عن المشكلة الثقافية عن عدم التطور الفكري والأخلاقي لدى قطاع عريض من شبابنا الذين يفترض أنهم أخذوا القيم الكبرى مثل الاحترام والأمانة والإخلاص في العمل وغيرها.

بالطبع هناك عدد آخر بالتأكيد كانت تجربة الابتعاث لديهم قيمة علمية وثقافية واجتماعية حتى شكلت شخصياتهم، مع حفاظهم على هوياتهم أيضا، تشكيلا يمكن القول معه إن الابتعاث أثمر في صنع شخصية علمية وثقافية مميزة جدا، ولكن الحديث لا يدور حول هؤلاء لأن التميز سوف يكون متميزا حتى في أحلك الظروف، صحيح أن الظروف المساعدة لها دور، لكن يبقى جهد وحرص المتميز فاعلا في الموضوع في كل الأحوال. الحديث يدور حول أولئك الذين قضوا سنوات الدراسة ثم عادوا ولم تصنع تجربة الابتعاث فيهم أي تغير لا من الناحية العلمية ولا غيرها، وهؤلاء ظاهرة وظاهرة عريضة كان يجب الوقوف عندها طويلا وتحليلها من قبل المختصين.

لا تكفي دعاوى الحفاظ على الهوية كحجة تنغلق من خلالها الهويات على نفسها ولا تستطيع التعايش مع الآخر المختلف، فالتفوق العلمي والتطور الثقافي لا علاقة لهما بإشكالية الحفاظ على الهوية، وإنما المسألة أعمق في نظري، إذ تمس الجانب المعرفي والتكويني الذي نشأ عليه كثير من أبنائنا في النظر إلى الآخرين، ويتم تعزيزه بعدد من المواقف التي يرى فيها شيئا من الاختلاف عن ثقافته الأم حتى صارت سمة الانغلاق هي السائدة.

&