&يوسف الديني&

عقد ونصف العقد من الزمان مرّت على أحداث 11 سبتمبر المأساوية، تغيّر معها وجه العالم وجغرافيته السياسية وتوازنات القوى، بحيث أصبحت ذكرى 11 سبتمبر تمرّ دون كل تلك الهالة السنوية التي تسبق ذكراه، على الأقل هذا الانطباع السائد خارج الولايات المتحدة عن الحدث الذي لا تزال الولايات المتحدة مصرّة على بعث الحياة فيه، عبر استغلاله قدر الإمكان في تعميم سياستها الخارجية، رغم تراجع الخطر المحدق بها، إلا من تهديدات «القاعدة» التي باتت أيضًا موسمية مع الحدث.

الفيلسوف الفرنسي من أصول جزائرية جاك دريدا تحدث عن موسمية الحدث، مؤكدًا أنه «لا يمكن نسيانه أو محوه ببساطة من الأرشيف المشترك لتاريخ عالمي، لكن هذا الحدث بالتحديد فرض على العالم سطوته من بين كل الحوادث المشابهة له، بسبب وسائل الإعلام التي بالغت في تعظيمه، عبر آلية التكرار القهري في الحديث عنه، وتحويل هذا اليوم إلى يوم عظيم بمجرد ذكر رقم اليوم والشهر وبغض النظر عن أي شيء آخر عدا 11 سبتمبر، كما قرأ المفكر الفرنسي الكبير الحدث من زاوية سوسيولوجية في كتابه الشهير «ماذا حدث في 11 سبتمبر؟»، الذي يرى ضرورة الخروج من مأزق الجغرافيا والاطلاع على أسباب العطل التي أدت إلى الكارثة وأهمها فشل الدولة القومية وصعود خطابات التطرف، وعدم استقرار الدول اقتصاديًا، ولاحقًا عقب الربيع سياسيًا، وهو ما يعني الصورة المكبرة لمحفزات ردات الفعل العنيفة، التي قد تتخذ العامل الديني غطاء لها.

الحادي عشر من سبتمبر حرك مفاهيم الحريات والعدالة والموقف من الآخر والتعددية، كما سلط الضوء على مفهوم «العنف»، ومن خلاله أعاد فهمنا للراديكالية باعتبارها إحدى أهم الأزمات التي فجرها الواقع المتردي للبلدان العربية، ومن ثم تصديرها إلى الخارج، وما كان لذلك العنف الكامن أن يجعلنا نلتفت إليه، إلا حين ارتد إلينا عبر موجات كانت أكثر دموية وتأثيرًا، لولا أن الميديا الأميركية كرست كل جهودها لاستحلاب أيلولها.

12 مايو (أيار) السعودي كان إحدى موجات الارتداد التي جعلتنا نلتفت جيدًا إلى «القاعدة»، إلى الحد الذي صرح معه الملك عبد الله بن عبد العزيز بأن معركتنا مع الإرهاب طويلة جدًا، ومن ثم تحول «العنف» من أجندة يمكن تبريرها لمكتسبات خارجية إلى مشكلة تمس الذات، ترمل الأم وتخطف الابن وتدمر الممتلكات. هذا العنف الذي كان من قدرنا الجيد أن تتعملق «القاعدة»، وتخرج من جحورها الصغيرة في أفغانستان، ومناطق التوتر، لتضرب أوروبا، في الوقت ذاته الذي تدمر فيه في المغرب وإندونيسيا واليمن.

عولمة «الإرهاب» عبر أذرع التنظيمات الإرهابية من «القاعدة» إلى «داعش» أعادت صياغة مفاهيمنا حول الذات والآخر على نيران غير هادئة، صحيح جدًا أن الأنظمة العربية ظلت راكدة بفعل حالة الارتخاء التي سببتها الحالة الأمنية فيما يتصل بالحقوق السياسية، إلا أن المقبل لم يكن في الحسبان.

في الخليج الدول التي مسّها الإرهاب بسوء، ولم تمسها رياح «الربيع»، كانت التحديات فيها أقل تأثيرًا رغم صعوبتها بعد الحادي عشر من سبتمبر، سعوديًا كان تحدي الإرهاب كبيرًا ومزدوجًا؛ فمن جهة، أعقبت الهجمات حالة ارتخاء على مستوى العلاقات السياسية، لكن الضربات الاستباقية على معاقل الإرهاب الذي مسّنا بأكثر مما مس الأميركيين أنفسهم أسهمت في فك تلك الازدواجية، بل وجعلت من السعودية لاعبًا رئيسيًا في ملف الإرهاب الذي ما زالت الدولة تنظر إليه بجدية بالغة.

وعلى العكس، فإن حالة الاستقرار السياسي رغم كل رياح الثورات التي أوحت بسهولة الخروج من مأزقها، فإن التحديات السياسية التي تعيشها المنطقة تفرض على السعودية دورًا رئيسيًا لا يقل أهمية عن دورها في الحرب على الإرهاب، وأنا هنا لا أتحدث عن لعبة «الأهلة» التي بات البعض يستخدمها بانتهازية سياسية، فالتلويح بالهلال الشيعي أعقبه التلويح بالهلال الإخواني، رغم أن الأول في طريقه للأفول، والثاني يعيش ممانعة سياسية داخلية ومحاولة «عقلنة» خارجية، وربما هذا الدور الذي ينتظر دول منطقة الخليج والدول العربية وبالطبع السعودية كرقم صعب ومهم في المرحلة المقبلة، فالدور المقبل هو ضرورة التعاون مع دول «الربيع العربي» لإخراجها من منطق هوياتها الصغيرة الحزبية، ومن أجواء المعارضة التي كانت تعيشها طيلة فترة تشكلها، إلى أن تصبح دولاً فاعلة في السياق الإقليمي، وفق مبدأ التحالف والتعاون المشترك، وليس الابتلاع الآيديولوجي أو التصدير الفكري الذي أحال واقع «إيران» إلى ما آلت إليه من حصار إقليمي وانهيار اقتصادي.

«عقلنة» الحالة السياسية مطلب مهم، وربما كانت الكتابات النقدية التي كتبها فلاسفة كثيرون ما بعد الحادي عشر من سبتمبر قد أسهمت في تقليم أظافر رد الفعل الأميركي، وإن لم تفلح في إنهاء ذرائعية الاستفادة من الحدث.

الأكيد أن الإدارة الأميركية الجديدة لم تستطع الخروج بنجاح من الإرث الفاشل للإدارة الأميركية السابقة سيئة الذكر، التي ارتكبت كوارث كثيرة، حيث فشلت في التعامل مع الملفات الحساسة التي تمس العالمين العربي والإسلامي، من خلال ارتجالها غير المدروس، في مسألة الحرب على الإرهاب، بدءًا بملف أفغانستان، ومرورًا بالعراق فالصومال ثم اليمن.

من المهم في سياق كشف الحساب لمرحلة الحادي عشر من سبتمبر القول إن ثمة خطابات كانت تحاول التوازن بين الاندفاع الأميركي في ملف الحرب على الإرهاب، حيث وقفت منظمات حقوقية أميركية ودولية مواقف مشرفة في التحذير من خطورة التعامل مع الإرهاب خارج أطر الشرعية الدولية والحقوق العامة، وكان من اللافت جدًا آنذاك الحديث عن الآثار الخطيرة الناجمة عن معالجة ملف الإرهاب من زاوية أمنية فقط، من دون إعطاء الأولوية للجوانب الفكرية والثقافية، وهو الأمر الذي ظل منذ رفع شعار الحرب على الإرهاب مقتصرًا على النخب الثقافية التي لم يتم الإصغاء إلى صوتها كثيرًا، بل وقعت بين فكي كماشة. فهي من وجهة نظر الإرهابيين والمتعاطفين معهم طابور خامس يكتفي بنقد معضلة التطرف والإرهاب المسلح من ناحية الحجج الدينية لهذا الخطاب. هذا من جهة الإرهابيين والمتعاطفين معهم، وهي من وجهة نظر الذهنية العسكرية في الإدارة الأميركية لا تنظر إلى قضية الإرهاب بحجمها الحقيقي.

تغيرت الأوضاع كثيرًا في عالمنا العربي والإسلامي، وهو الأمر الذي يضع مسؤولية كبيرة أمام الولايات المتحدة في طريقة إدارتها للعلاقات الدولية واستراتيجية الحوار مع هذه المتغيرات الجديدة، ليس فقط على شكل براغماتي يحاول التواصل مع الخطابات الغالبة أو المهيمنة بقدر حاجتها الماسة إلى إعادة كشف حساباتها في المنطقة على أساس تلك المتغيرات، وما أحدثته من مستجدات على مستوى الخطاب الثقافي والاجتماعي، وليس السياسي فقط، حيث بات، بفضل تعملق الإرهاب وتضخم منسوب التطرف في المنطقة وصعود الميليشيات، لكل دولة «11 أيلولها»!

&

&