نديم قطيش

ليس بسيًطا خبر إقرار مجلس النواب الأميركي تشريًعا، يوم الجمعة الماضي، يسمح لأسر ضحايا هجوم 11 سبتمبر (أيلول) بمقاضاة الحكومة السعودية على الأضرار التي لحقت بهم. قبله وافق مجلس الشيوخ بالإجماع في مايو (أيار) الماضي على «قانون تطبيق العدالة على داعمي الإرهاب»، الذي يعرف اختصاًرا باسم «جاستا».

البيت الأبيض أعلن أن الرئيس باراك أوباما سيستخدم حق النقض ضد القانون، الذي أيده ثلثا مجلسي النواب والشيوخ، الواقعين تحت سيطرة الجمهوريين، أي الحزب الحليف تقليدًيا للمملكة. لم يغير في مسار ولادة القانون، نشر الصفحات الـ28 من تقرير لجنة التحقيقات في أحداث سبتمبر، التي برأت الحكومة السعودية من أي دور في تلك الجريمة، على الرغم من أن 11 سعودًيا كانوا بين مجموعة الـ19 التي قادت ونفذت الهجوم.

المسألة إذن أبعد من فيتو رئاسي أو وقائع تقرير استخباراتي أو تحقيقي. صدور القانون نفسه والمشهدية الحماسية التي رافقته على شكل صيحات الترحيب والتصفيق في قاعة مجلس النواب، تفيد بأن العلاقات السعودية - الأميركية دخلت منخفًضا جديًدا.

الحقيقة أن السعودية تواجه حرًبا ناعمة. لندع نظريات المؤامرة جانًبا، وإن كان التآمر على المملكة يحصل في العلن. من علامات ذلك، المقال المشين لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في صحيفة «نيويورك تايمز» بالأمس، والمغلف بخلاصة التقية الخمينية، إذ يبدأ مقاله بالدعوة لتخليص العالم من الوهابية، وينهيه بمد يد الحوار والتعاون للسعودية! من يقرأ مقال السيد ظريف يخال أن إيران توفد رسل سلام إلى العالم العربي ولا ترعى أعتى الميليشيات المذهبية فيه، دعك عن دعمها الموثق للتنظيمات الإرهابية السنية، الذي نعرف عنه للمفارقة مما ينشر في أميركا نفسها!

إنها حرب ناعمة، مثابرة وجادة. الجديد فيها ليس استهداف المملكة، وهو استهداف متصل، من جمال عبد الناصر إلى علي خامنئي وما بينهما، بل لحظتها الزمنية.

تتغذى هذه الحرب من انفصامين؛ انفصام أميركي وآخر سعودي. من يعرف الولايات المتحدة، ويحتك بنخبها، وصحافتها، يعرف أن ما يكتب وينشر ويذاع اليوم عن السعودية غير مسبوق فيما يتناوله. ثمة انفجار لما كان مسكوًتا عنه لعقود، تحت وطأة المصالح الاستراتيجية الأميركية التحالف الأميركي - السعودي هو الأقدم في تاريخ علاقات واشنطن الخارجية، والأكثر ثباًتا حتى الأمس - السعودية الضخمة، وأبرزها النفط ومواجهة الاتحاد السوفياتي والنظم الثورية العربية!

القريب.. ولكن الأكثر إشكالية. فالسعودية هي النقيض الأميركي، وأميركا هي النقيض السعودي، قيمًيا وفكرًيا واجتماعًيا ونظاًما سياسًيا. هذا الانفصام بين الحاجة إلى السعودية وبين التنابذ معها، ظل متوازًنا تحت سقف المصالح، وانفجاره اليوم على شكل مواقف سياسية وكتابات هو حصيلة اختلال هذه المصالح.

لم يعد النفط يحمل الصفة الرئيسية نفسها لواشنطن، وإن كان لا يزال رئيسًيا لصحة الاقتصاد العالمي الذي يهم أميركا. وليس هناك اتحاد سوفياتي تخشى واشنطن تمدده في الشرق الأوسط، بل روسيا اتحادية ترى واشنطن في أدوارها الجديدة في المنطقة فرصة لتوظيفها في مواجهة الصين، ووريًثا لأدوار لم تعد أميركا راغبة في لعبها وتحمل أكلافها!

وعليه، باتت أميركا أكثر حرية في التصالح مع نفسها والخروج من هذا الانفصام، والمضي نحو علاقة مع الرياض لا تستوجب إبقاء المسكوت عنه، مسكوًتا عنه!

في مقابل الانفصام الأميركي، ثمة انفصام سعودي هو بوابة إلى معظم ما يكتب ويقال عن المملكة. لعل المقال الأكثر وضوًحا في التعبير عن هذا الانفصام ما كتبه سكوت شاين في «نيويورك تايمز» قبل أسابيع قليلة بعنوان «السعوديون والتطرف: مشعلو الحرائق ومطفئوها في آن!»، المقالة الخالية من وجهة نظر سعودية، وهذه مفارقة كبيرة لدولة تصرف الملايين على شركات العلاقات العامة وصاحبة تجربة جبارة في هذا المجال بعد أحداث سبتمبر 2001، بقيادة السفير عادل الجبير آنذاك، تضع الإصبع على جرح كبير.

نعم، السعودية دولة ريادية في مكافحة الإرهاب. ونعم أيًضا، إن فكر قلة من السعوديين ملهم لهذا الإرهاب على ما يقر دعاة سعوديون بشجاعة فقهية لافتة!

إنها لحظة تصادم خطيرة بين هذين الانفصامين؛ الأميركي من جهة، والسعودي من جهة ثانية. الأخطر من ذلك أن جل السجال الغربي والأميركي تحديًدا مع السعودية، لا يزال يقع في مرحلة الماضي، مع التفاتات قليلة إلى المعركة الفكرية العميقة القائمة اليوم في المملكة. المعركة على هوية الدولة وهوية المجتمع ومشروع التحديث الاجتماعي والاقتصادي الضخم الذي يقوده الملك سلمان بن عبد العزيز.

وهو نقاش في الماضي، يغلب عليه التعفف الأميركي عن مغازلة التطرف في مواجهة الاتحاد السوفياتي، كأن الغرب ليس شريًكا في هذا الاستثمار القاتل الذي يدفع ثمنه العالم كله اليوم، بعد أن دخل عليه مستثمرون أكثر خبًثا، وعلى رأس هؤلاء إيران!

مسؤولية المملكة كبيرة في مواجهة هذه الحرب الناعمة والظالمة. بعض المسؤولية داخلي، وله علاقة بإنهاء الانفصام بين مكافحة الإرهاب واستمرار الدعم لجذوره وإلهاماته، كتًبا ودعوات! ومسؤولية خارجية، دبلوماسية وإعلامية، لها علاقة بنقل النقاش مع الغرب، من الغرق في ماضي المملكة، إلى التطلع نحو مستقبلها الحيوي والمهم لاستقرار المنطقة والعالم.

في الداخل انطلقت ورشة كبيرة، قد يكون من الحكمة إبقاء صداها خافًتا، لكن ليس خافًتا إلى الحد الذي لا يسمعه العالم.
الحرب الناعمة قائمة، وقد آن الأوان لعاصفة حزم سياسية ودبلوماسية وإعلامية، تواكب الحزم الأمني في الداخل في مواجهة الإرهاب العسكري في الخارج، وفي مواجهة رعاته الجدد!