شتيوي الغيثي

البنية الفكرية التي تحرك الجانب السياسي في إيران هي بنية دينية، والبنى الدينية السياسية هي بنى لا تهدف إلا إلى مزيد من الصراع الديني بوصف الدين رأسمال رمزيا للسياسيين

الحج فريضة إسلامية تتفق عليها جميع المذاهب الإسلامية بلا استثناء، وقد تكون هناك اختلافات في بعض الطقوس عند المذاهب، لكنها ليست اختلافات جذرية يمكن أن تجعل هذه الفريضة في حالة خصام مع المذاهب الأخرى أو حالة مفاصلة. هذا الكلام يدور حول أصول المذاهب وليس واقعها الذي يختلف من مذهب إلى آخر، إذ لا نجد في أصول المذاهب الإسلامية شيئا من المفاصلة السياسية تجاه المذاهب الأخرى في فريضة الحج بوصفه ركنا من أركان الدين.

لكن لطالما كان الحج في الوقائع التاريخية عند بعض المذاهب فرصة من فرص التناحر السياسي، والغريب أن أكثر فريضة من فرائض الإسلام يتم تسييسها هي فريضة الحج، على الرغم من أن أصول تلك المذاهب على اختلافها تعطي الحج قيمة عليا من القيم الأخلاقية والدينية، حتى إن المشاعر الدينية تجاه مكة أو الحج بشكل عام تكون أكثر ظهورا من أي فريضة أخرى لاعتبار بعد المسافة من قبل كثير من المجتمعات الإسلامية، بل إن بعض المجتمعات تجعل من الحج نوعا من الاكتمال الديني للشخصية الاجتماعية، ولذلك يمكن أن ترى تلك المشاعر الفياضة أثناء دخول مكة أو الخروج منها خلاف الفرائض الأخرى التي يمكن تأديتها في أي مكان من العالم. وعلى الرغم من اختلاف المذاهب الإسلامية والمجتمعات الإسلامية حول تصوراتها للحج سواء على المستوى العقائدي أو الوجداني أو الطقسي في بعض جوانبه إلا أنها تتفق جميعها في أنها البلد الآمن بحيث يتم رفض أي سلوكيات خارجة عن مشكلة التناحر الديني أو السياسي بين الطوائف.

وعلى رغم كل ذلك فإن فريضة الحج تم تسييسها كثيرا من قبل الطوائف الدينية في التاريخ العربي والإسلامي، ولعل أخطر حالة تسييس حصل للحج ما فعله القرامطة من سرقة الحج وتعطيل الحج قرابة 30 عاما حتى توسط أحد خلفاء الدولة الفاطمية بإعادة الحجر الأسود إلى مكانه، ولذلك كان الحج واحدا من أكثر الفرائض الإسلامية تسييساً.

إيران ومنذ سنوات طويلة وهي تحاول في أكثر من مناسبة تسييس هذه الفريضة، إذ صار من المتوقع في كل سنة أن تضرب إيران على وتر السياسية في هذه الشعيرة بوصفها دولة دينية، والدول الدينية عادةً ما تستغل أي فريضة لتحقيق مآربها السياسية، لأن العلاقة بين الدين والدولة متجذرة في التصورات الدينية عند المجتمعات التي لم تدخل في مرحلتها المدنية في تصورها للدولة أو أنها تنحي الجانب الديني في تشكيل السياسة، وهو الأمر الذي يمكن أن يحمي الديني من تلاعب السياسيين خاصة في الفرائض أو الشعائر الدينية، والدولة الإيرانية دولة دينية بامتياز، ولذلك فإنه لا غرابة في أن تستغل الحج في خلط الأوراق الدينية بالسياسية لمآرب عديدة ليس هنا محل التفصيل فيها.

توتير المسألة الدينية بالسياسية فكرة سياسية في أصلها وهي متصلة بتاريخ الصراع على الهيمنة الدينية والسياسية منذ قرون، وكل الاشتغال السياسي يهدف في المطاف الأخير إلى توسيع المصلحة السياسية حتى في استغلال المسائل الدينية، لأنها يمكن أن تضيف إلى المصلحة السياسية مصالح أكثر وأكثر، ولذلك لا يمكن فهم حرص إيران على توتير العلاقة السياسية في الحج إلا من جانب المصلحة السياسية، وخاصة إذا عرفنا أن قضية تصدير الثورة الإسلامية في إيران واحدة من أهم الأساليب في خلق بؤر توتير سياسي في المنطقة العربية منذ أكثر من 30 عاما وحتى الآن، ويبدو أن إيران ما تزال تفكر في استغلال الحج على رغم فشلها المتكرر في استغلال الحج كل سنة لمصالحها الخاصة، وإلا ما معنى ذلك الحرص الكبير على تسييس الشعيرة رغم أنها قد تضر بالحجاج الإيرانيين أنفسهم كما حصل هذا العام من تقليص حجاج إيران بسبب النظام الإيراني، الأمر الذي عاد سلبا على الشعب الإيراني أكثر من أي شعب آخر، ومضى الحج لهذا العام مثل كل سنة آمنا من أي شغب، فهل سيتعلم الإيرانيون الدرس في عدم تسييس الشعيرة الدينية؟

شخصيا أشك في مسألة تعلم الدرس، لأن البنية الفكرية التي تحرك الجانب السياسي في إيران هي بنية دينية والبنى الدينية السياسية هي بنى لا تهدف إلا إلى مزيد من الصراع الديني بوصف الدين رأسمال رمزيا للسياسيين.

اللعب على وتر الدين في السياسة هو لعب على أكثر القضايا إشكالية، وعادة ما أضر هذا الأمر بالديني والسياسي على حد سواء، وعلى الرغم من وضوح هذه المسألة فما زال كثير من الدول، وإيران من أكثرها وضوحا، تلعب على هذا الوتر، ولذلك فلا حل في مواجهة إيران إلا بمزيد من "تمدين" السياسة وليس "تديينها"، بمعنى إبعاد المجال الديني عن السياسة في مجالات الحياة، وليس فقط في الحج، وخاصة من جانب الدول العربية لقطع صلة إيران عن فرصة اللعب بذات الوتر الديني الذي ينتشر في العام العربي، وثبت مع الوقت أنه أضر بالمنطقة العربية فضلا عن إضراره بالشعائر الدينية.

&