&جورج سمعان

&&الحديث عن معاودة المفاوضات السورية قريباً يبدو نوعاً من العبث. من السذاجة أن يظن أحد أن النظام في دمشق أو «الهيئة العليا للمفاوضات» سيتوليان رسم التسوية. يكاد مجلس الأمن نفسه يكون غائباً عن أي دور، حتى على صعيد التخفيف من المأساة الإنسانية. الاتفاق الأميركي - الروسي، أو «اتفاق الكاستيلو»، لم يلغ دور الأطراف السورية فحسب، بل قفز على كل القرارات الدولية الخاصة بالأزمة السورية وبيان جنيف وتفاهمات فيينا ومواقف «أصدقاء سورية» وحلفاء النظام. البيت الأبيض والكرملين يخططان بعيداً عن جميع المنخرطين، سعياً إلى هدنة بينهما لم تعمر تحت وطأة الاتهامات وانعدام الثقة. وليس على الآخرين سوى التزام ما يتفقان عليه. وليس عليهم سوى حشد مزيد من القوات، كما حصل ويحصل هذه الأيام. إذ تكاد سورية تضيق بهذا الكم المتعدد الجنسية من الجيوش الذي لم يحصل مثيل له في أي بلد منذ الحرب العالمية الثانية. ما يشي بأن هذا الجمع يتهيأ لحدث أكبر من بلاد الشام. لحدث ينطلق منها إلى الإقليم كله. لقد فشل المحافظون الجدد أيام رئاسة جورج بوش الابن في بناء شرق أوسط جديد. وجهدت الإدارة الحالية انطلاقاً من حلب لبناء لبنة تفاهم مع موسكو، تستكملها الإدارة المقبلة، من أجل إعادة بناء هذا الشرق على حطام هذه الفوضى العارمة والشاملة، وتوزيعه مناطق نفوذ بينهما ومع القوى الإقليمية الكبرى أو بالأحرى مع إيران وتركيا... فالعرب لا حول لهم ولا قوة.

يختصر هذا الجمع الكبير والمتعدد من القوات وخريطة انتشاره صورة واضحة لتداخل جميع اللاعبين وأجنداتهم المختلفة ومناطق نفوذ كل واحد منهم. فالروس يرابطون على الساحل الغربي والمناطق المحاذية للبنان وحتى حدود الجولان. والإيرانيون وميليشياتهم في هذه الجغرافيا فضلاً عن دمشق. ولا يخفون مشروعهم للإمساك بالطريق الرابط بين العاصمة والبوكمال على الحدود مع العراق، حتى يكتمل التواصل مع الجمهورية الإسلامية شرقاً، ولبنان غرباً عبر القلمون والمصنع صعوداً حتى حمص وحماة. إنه «الأوتوستراد الإيراني» يرث «الأوتوستراد العربي» الذي ولدت فكرته إثر هزيمة 1967. ويقابلهم الترك الذين لن يكتفوا بـ «درع الفرات» وبحصتهم من «الأوتوستراد» في سورية. سيطلقون «درع دجلة» أيضاً عندما تنطلق معركة تحرير الموصل من «داعش». والأميركيون يتريثون في إطلاقها إلى أن يتحقق التوافق بين القوى التي ستساهم في الحرب: من القوات العراقية إلى ميليشيات «الحشد الشعبي»، «الحرس الثوري العراقي الجديد»، إلى القوات الأميركية ومقاتلي «البيشمركة» فضلاً عن الأتراك. وهؤلاء يرون أنه يحق لهم ما يحق للآخرين. إسرائيل تدافع عن اليهود أينما كانوا. تعاملهم جزءاً من مواطني الدولة. ومثلها روسيا التي تغطي تدخلها من جورجيا إلى أوكرانيا بحماية مواطنيها من أصول روسية. وكذلك إيران التي تعمم تجربة «الحرس الثوري» فـي بلدان عربية عدة. وتحمل لواء الدفاع عن الشيعة أينما كانوا وأياً كانت جنسيتهم. لذا تجد أنقرة أن من حقها أن تحذو حذوهم في الدفاع عن التركمان أينما وجدوا، وعن السنة عموماً في المشرق العربي والذين يشعرون بأنهم باتوا بلا ظهير وسند.

أما الأميركيون الذين يملأون المنطقة بطائراتهم وحاملاتها، فتنتشر قواتهم الـــبرية على قلة أعدادها مقارنة بالآخرين، في مناطق تجاور الحضور الإيراني والانتشار الكردي. ناهيك عن حضور الأردن وإسرائيل فـــي الجبهة الجنوبية من الجولان إلى درعا. وهي جبهة يرعاها تفاهم رباعي أردني - إسرائيلي - روسي - أمـيــركي. ويعمها هـــدوء كأن الحرب تجري فـي بلد آخر! إنها قوات تناهز أربعين ألف رجل. كأنهـا قـــوة احتياط تنتظر أوان رسم حدود الإقليم برمـــتـــه وليس بلاد الشام وحدها. ناهيك عـــــن الحضور العربي عبر كثير من الفصائـــل المقاتلة والقوى السياسية المنضوية تــحـــت عباءة «الائتلاف الوطني». كما أن بريطانــيا وفرنسا تحاول كل منهما أن تعزز انتشارها وحضورها هنا وهناك. وتصران علــى مناقشة الاتفاق الأميركي - الروسي في مجلـــس الأمن للاطلاع على ما خفي منه، هما الخبيرتان في إبرام الصفقات السرية أيام الاستـــعمار القديم، وكان أبرزها «اتفاق سايكس - بيكو». لعلهما تخشيان أن تتقاسم الولايات المتحدة وروسيا الإقليم عندما تنضج الظروف، انطلاقاً من وحدة التنسيق العسكري التي يبدو أنها وئدت قبل أن تولد. وكانت خطوة سابقة منذ الحرب العالمية الثانية. لذلك تحفظ قادة البنتاغون وعلى رأسهم وزير الدفاع اشتون كارتر أكبر المعترضين على قيام هذا النوع من التنسيق الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من الثقة المتبادلة بين واشنطن وموسكو.

«اتفاق الكاستيلو» استهدف ترسيخ هدنة بين واشنطن وموسكو أكثر منها هدنة بين المتصارعين على الأرض. فجل ما كان يبتغيه الأميركي اليوم هو مواصلة الحرب على الإرهاب وتخفيف معاناة الناس العاديين. فيما لا يغيب عن الروسي هاجس الغرق في مستنقع يفاقم استنزاف اقتصاده الداخلي العليل على وقع تدني أسعار النفط ونتيجة العقوبات التي يفرضها الغرب عموماً. لا اهتمام بالحل السياسي. بات هذا من الماضي... القريب. إدارة الرئيس باراك أوباما من زمن لم تعد تتحدث عن مواجهة الإرهاب بالتوازي مع البحث عن تسوية. لم تعد تتحدث حتى عن هذه المواجهة مدخلاً إلى الحل. وهي منذ اندلاع الأزمة لم تبد أي اهتمام بالتدخل. لذلك لا مبالغة في القول إن الاتفاق الثنائي المتهاوي ألغى عملياً أي مسعى نحو التسوية. بل إن سقوطه سيصب مزيداً من الزيت في نار الحرب التي ستطول إذا قصد رأس النظام في دمشق وحلفاؤه استعادة حلب. وكان متوقعاً من البداية ألا يسهل النظام الهدنة وإيصال المساعدات. فهو لم يتخل يوماً عن فكرة الحسم العسكري، ما دام أنه يتلقى دعماً كبيراً من موسكو وطهران. بل بات أكثر اطمئناناً إلى مستقبله مع الاشتباك المتجدد بين واشنطن وموسكو في مجلس الأمن وعبر المنابر الإعلامية. كيف لا ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لفت المعنيين إلى أن شعبية الرئيس بشار الأسد «في ازدياد مستمر بين مواطنيه الذين يرون إليه ضماناً لمنع وقوع سورية بيد الإرهابيين وانهيارها كدولة». وما لم يقله الوزير صرح به نائبه غينادي غاتيلوف. دعا المعارضة السياسية إلى التخلي عن مطلبها رحيل الرئيس الأسد، وذلك كمبادرة «حسن نية» قبل عقد جولة جديدة من المفاوضات. موسكو التي صرحت في مناسبات كثيرة أن مصير الرئيس السوري لا يعنيها باتت لا تتورع عن دعوة المعارضة إلى العودة إلى حضن «الشرعية»! ولمَ لا؟ لقد انتزعت من واشنطن في «اتفاق الكاستيلو» مواقف أكثر مرارة للمعارضة. ميخائيل بوغدانوف، نائب لافروف، قال إن الاتفاق الثنائي لا يشمل مصير الأسد ولا يتضمن العملية الانتقالية «لأن ذلك مسألة سورية بحتة»! وأكد أن ما اتفق عليه في فيينا ونيويورك ومجلس الأمن يمثل الخطة الوحيدة التي تدعمها موسكو «ولا خطة باء ولا خطة جيم...»! بعد هذا هل يمكن المعارضة السورية أن تصدق أن لها دوراً في أي مفاوضات وأنها يمكن أن تتقدم نحو مرحلة انتقالية تمهيداً للتغيير المنشود؟ الاتفاق الثنائي، على رغم تعثره، جبَّ كل ما قبله.

أما المعارضة العسكرية وفصائلها المتنوعة فتواجه اليوم خيارين أحلاهما مر وقاتل: إذا تمسكت بالتنسيق مع «جبهة فتح الشام» (النصرة) لمواصلة الإفادة من قدراتها وخدماتها الميدانية ستصنف «إرهابية». وإذا ابتعدت عنها وتركتها وحيدة بمواجهة غارات التحالف الدولي والطيران الروسي تفقد سنداً لا يمكنها تعويضه. ستضعف قواها أمام هجمات النظام وحلفائه. بل إن بعض الفصائل بما فيها تلك التي تنتمي إلى «الجيش الحر» قد تلتحق بالمتشددين ليأسها وشعورها بأن العالم تخلى عنها. وما رفض فصيل «أحرار الشرقية» قبل أيام وجود مستشارين أميركيين في بلدة الراعي مع حملة «درع الفرات» سوى إشارة إلى مدى امتعاض هذا الجيش وشركائه من المواقف الأميركية. علماً أن هذا الفصيل أفاد من برنامج البنتاغون لتدريب عناصر مقاتلة يعتبرها معتدلة! إضافة إلى كل ذلك تصر موسكو على توصيف «جيش الإسلام» و»أحرار الشام» بالإرهاب، وتنشد شمولها بالحرب المفتوحة على الجهاديين. وذهب مندوبها في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن بعيداً في اتهام الولايات المتحدة بدعم فصائل إرهابية.

«اتفاق الكاستيلو» المترنح كان مقدراً له الحفاظ موقتاً على الصورة الجديدة لانتشار القوات المتعددة الجنسية، وتالياً على مناطق النفوذ بين الكبار البعيدين والقريبين. يبقى السؤال هل تملك القوتان الكبريان بعد فشلهما في ترسيخ هدنة من بضعة أيام، ما يتيح لهما كبح جماح الطامحين إلى مواصلة الحرب لتغيير موازين القوى على الأرض ليتسنى لهم تغيير خريطة الإقليم ورفع حدود دولية جديدة وتقسيم المقسم بدل الاكتفاء بتقاسم الحصص ومناطق النفوذ؟