&هاني نسيرة

يحسم البعض، من المراقبين ووسائل الإعلام، قولا واحدًا، مساويًا بين استراتيجيات الجماعات الإرهابية من بلد لآخر، ومن سياق إلى سياق مختلف، حتى وإن ترابطت، فروعا لـ«داعش» أو أصولا، أو خلايا عشوائية من «الذئاب المنفردة»، تنتمي لتنظيم أُم أو لا ترتبط. فالإرهاب شأن أي ظاهرة تتبيأ في بيئتها، ويتكيّف مع سياقاته، ومن الضروري عدم الانسياق وراء آلته الدعائية في التهويل من حضوره، باعتباره واحدا وخطرا مستمرا لا يعرف التراجع أو الهزيمة، كما هو دائما في سائر خطاباته ونداءاته الحركية ظاهرة واحدة متجمعة تتبع رجلا واحدا وأميرا واحدا، وما يراه آخروها منها دائما هو خطر متصاعد لا يعرف الإقرار بأزمته أو هزيمته يوما.

من الأخطاء الشائعة في تناول ظاهرة التطرف العنيف عربيا - ودوليا - قلة الوعي باختلافها، فكرا وتنظيمات وممارسة، وإدارة هذه الاختلافات.. وكذلك الانسياق اللا شعوري وعدم التحرر من قاموس الإرهاب نفسه، الذي يعمم تعبير «عملية» وأحيانًا غزوة، على كل عمل - صغر أو كبر - قام به، والاستجابة لإيحائه بالصمود والتدم والانتصارية التي يطمئن بها أبناءه قبل أن يخيف بها أعداءه.

لكن من أعظم الخطر تداولا ما يقوم به بعض الكتاب والصحافيين من افتراض الاتصال العميق بين جماعات الإرهاب المعاصر وبين تراث ديني، من البخاري لابن تيمية إلى غيرهم، رغم أنه لم يكن إرهابيًا أو عدميًا أو خارجيًا قبل مئات السنين، فيسلم الإرهاب شرعيته دون أن يدري، ويصدم سند المعتدلين ليس غير خبط عشواء.

لا شك أن ثمة مشكلاً كبيرًا في تناول كثير من الظواهر العميقة عربيًا الآن، في ظل مناخ استقطابي حاد، وسيولة من الصراعات والمعارك والفوضى المنظمة وغير المنظمة، وغلبة للخبر على الفكرة، وللعنوان على التحليل، وتخمة من التحيز الآيديولوجي والسياسي ما أكثر نماذجه. ويكفي الإشارة لوصف مؤسسة إعلامية عربية كبيرة إرهابيًا مصريًا كشادي المنيعي بـ«المقاتل» وليس «الإرهابي» في موقعها الرسمي. أو ما أصدره مركز أميركي في يونيو (حزيران) الماضي حول «الإرهاب في شبه جزيرة سيناء المصرية» يحسم فيه بأن عمليات الإرهاب تضاعفت خلال عام 2016، الذي لم ينته بعد، وأن الأداء الأمني المصري غير مجد في هذا الاتجاه.

وفضلا عن مشكلات الحصر الذي استخدمه هذا التقرير المشار إليه، والذي يخالف بشكل صريح الإحصاءات والبيانات الرسمية وغير الرسمية في مصر والمنطقة، بل وبيانات تنظيمات التطرف في سيناء التي تعلن بها مسؤوليتها عن عملياتها، كان من الملاحظ تجاهل مؤشرات التراجع الواضحة، في انحسار العمليات الكبرى. ولقد كان آخرها في يونيو 2015 بقتل المستشار هشام بركات النائب العام المصري الراحل، أو عملية 17 يوليو (تموز) 2015 التي اتضح فيها التوجه الداعشي في تنفيذ تفجيرات متزامنة على عدد من النقاط الأمنية الصلبة.. ولأول وهلة ظن التنظيم انتصاره وتحققه ورفع أعلامه، لكن انكشافه لقوات الأمن التي توقعت ذلك، أتاح لها ضربات قاصمة لعناصره لم يقم بعدها.

من هنا نرى أن مساواة البعض، من باب الخطأ أو التوظيف السياسي المقصود لطرف ضد طرف آخر، بين محاولة إرهابية فاشلة وبين عملية كبيرة لها رمزيتها ودلالتها القوية، فلا يمكن أن تستوي تفجيرات باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بمحاولة فاشلة لقتل رجل في الشارع بسكين، من قبل متطرف موتور، هنا أو هناك.

كذلك لا تصح المساواة بين عمليات استهدفت أهدافًا صلبة لها دلالتها وأهميتها، كتلك التي استهدفت الحدود الأردنية السورية شمال العاصمة عمّان في أواخر يونيو الماضي، أو تفجير الضبعة في الأسبوع الأول من الشهر نفسه، الذي استهدف مؤسسة أمنية مهمة، وراح ضحيته في كليهما عدد من عناصر الأمن وخبراته، وبين عمليات صغيرة تستهدف أهدافًا رخوة. ذلك أن الأهداف الرخوة تكشف أزمات وضعف التنظيم المتطرف وخلاياه وعناصره، وميله العدمي، خاصة إذا كانت دور عبادة ومصلين ضيوفًا على الرب، كما شاهدنا في المملكة العربية السعودية.

* استراتيجيات التطرف في سياقات مختلفة

التطرف وعي تخلف تنتمي له كثير من التنظيمات وتتشابك في غاياته وأهدافه الكلية والجزئية أحيانًا، وتجمعها في العموم صفة «رفض الآخرية» أو تكفير الآخر واستحلاله. لكن كل شكل من أشكاله وممثليه يعمل في سياقاته الخاصة وحالاته الخاصة، وفق الممكن والمتاح وليس انقلابًا على قوانين التاريخ والطبيعة التي لا تنقلب.

ثمة المئات غيره من جماعات ومجموعات التطرف المنسوبة للإسلام تعمل في المنطقة، وليس «داعش» واحدها. بل ضمن مختلف طوائفه، وليس السني فقط كما يفهم بعض الباحثين الغربيين. وكل منها يختلف فعلها في بؤر الصراع كسوريا والعراق واليمن عن فعلها في دول مستقرة وقوية كما تختلف عن ممارساتها ضد دول بعيدة تبتعي فقط إرهابها والضغط عليها.

بشكل عام، رغم أن التطرف نسق وعقل كلي، فإنه لن تصح مجابهتها إلا من خلال التفاصيل والمتابعة الملتحمة بفعاليات الظاهرة وتنظيماتها، فمن المهم إدراك تطوراته وتراجعاته، خطابه النظري والتأسيسي، نشاطه أو غيابه، فليس أدل على أزمة تنظيم كـ«داعش» في سيناء من عجزه النظري عن إصدار كتيب واحد أو رسالة واحدة للمنسوبين إليه في تكفير نظام يحرص على تكفيره، أو في تبرير ممارسة أو حضور حتى الآن، مما يعكس أزمة الرمز الكبيرة التي يعاني منها.

أيضًا، من المهم إدراك الظهور والاختفاء لقادة ورموز ومنظري هذه التنظيمات، ونذكر على سبيل المثال أكبر شرعيي «داعش» تركي بن مبارك البنعلي الذي جرى فصله في يونيو الماضي من منصبه، وكيف تراجع إنتاجه وتفاعله النشط من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي 2015 وهو من كان يدوي نشاطًا وتبشيرًا بـ«دولة البغدادي» المزعومة، وأول من كتب عنها وبرر لها في رسالته «مد الأيادي لبيعة البغدادي» - وقد خلفه حاليا «أبو عمر القحطاني» - بل إن هذه المنطقة من أهم النقاط التي تستحق اهتماما إعلاميا عربيا كبيرا، حتى يعرف المتعاطفون ممن لا يعرفون. فمن الغريب مثلا أن أهم منشورات «داعش» المعروفة في المغرب العربي رسالة «أبو عمر الكويتي» بعنوان «ميراث الأنبياء» رغم أن «أبو عمر الكويتي» أعدمه «داعش» فيما بعد عام 2013.

إن الدول والحكومات الداعمة للحرب على «داعش»، تكون هدفا وفقط للعمليات الخاطفة، عبر استراتيجية «الذئاب المنفردة» الانتحارية، وهي تقع ضمن نمط الاستنزاف والنمط الدعائي، من عمليات وهو ما مثل السبب الرئيس الذي ألجأ «داعش» لاستهداف عدد من البلدان الخليجية وكذلك عددا من البلدان الأوروبية خلال عام من الآن.

من هنا لا بد من ضرورة معرفة استراتيجيات التنظيمات العنيفة، كل في سياقه، القادرة على التكيف والتأقلم مع تحدياتها وواقعها. وكيف تتأثر بهذه السياقات، فلا تلامس طموحاتها السقف حين تكون مضطرا للانحناء، ولا يطمح - حال مواجهته أنظمة قوية ومستقرة - لإقامته «إمارته» الآيديولوجية، وحين يصعب عليه الاستقرار في منطقة توحش يمارس عليه أحكامه السيادية والخاصة، ليكون Proto - States ويظل قابعًا ومحاولاً في مرحلة «النكاية والاستهداف»، كما جاء في مصطلحات «أبو بكر ناجي» صاحب كتاب «إدارة التوحش»، دون مرحلة التمكين التالية، حسب تصورات «إدارة التوحش» الاستراتيجية الأشهر والتي نراها أكثر تأثيرًا في أداء تنظيمات التطرف العنيف الآن، مع الأزمات المتوالدة والمتفجرة منذ عام 2011.

عربيًا، وتحديدًا في غير بؤر الصراع المشتعلة دون حل سياسي وعسكرة عامة، تستهدف الجماعات العنفية المتطرفة مرحلة النكاية والاستنزاف دون عملية التمكين، وإن ادعت أنها «ولاية» كما تفعل «داعش» دائما في تسمية فروعها، أو شعرت به بعض التنظيمات بعد العمليات الناجحة. ولكن حتى تاريخه تبدو هذه المحاولات في غير بؤر الصراع ومع الدولة القوية استهدافا واستنزافا وليس تمكينا، كما هو في مصر أو دول الخليج تحديدا، ودول المغرب العربي أيضًا.

* أنماط ثلاثة للإرهاب

اليوم من الأهمية بمكان التمييز بين درجات الحضور المختلفة لجماعات التطرف العنيف في العالم العربي، وهو ما كان الإرهاب نفسه واعيًا به، حين وضع «أبو بكر ناجي» (الذي نرجح أنه محمد خليل الحكايمة) استراتيجيته الأشهر «إدارة التوحش» في تفريقه بين مراحل العمل الإرهابي من الإنهاك والاستنزاف وصولا لمرحلة التمكين وإقامة إمارات الجماعة أو تمددها لخلافة مزعومة. من هنا نرى أن لدينا ثلاثة أنماط رئيسية في سلوك التنظيمات الإرهابية يمكننا تحديدها فيما يلي:

أولا: نمط الإنهاك: ويتمثل في عمليات استنزافية تستهدف الدول المستقرة والقوية عبر «الذئاب المنفردة» والعمليات الانتحارية واستراتيجية القتال الفردي التي تؤمن بها هذه الجماعات، وهي ما تعبر عنه هذه الجماعات بمرحلة «النكاية والإنهاك». وهي تحضر بالخصوص في حالة الإرهاب في شبه جزيرة سيناء الذي تراجع حلم «الدولة» عنه، كما انحصر وجوده داخل أماكن محدودة في سيناء، بعدما كاد يتمدد في سائر محافظات مصر.

الثاني: النمط الدعائي والذرائعي: ويتمثل في عمليات يعلن بها التنظيم عن نفسه، واستهدافه أو ضغطه لأنظمة ودول بعينها تدعم الحرب عليه وتعاديه، ويستهدف منها إحراج هذه الأنظمة عند شعوبها الرافضة له، أو تفجير الاحتقان الطائفي فيها. وهذا ما يغلب على عمليات الإرهاب والتنظيمات المتطرفة في كثير من البلدان والمناطق، مثل الخليج وأوروبا والولايات المتحدة وتركيا.

ثالثا: نمط الدولة والتمكين: وهو حال جماعات التطرف في مرحلة ضعف الدولة، ويتجسد عربيًا اليوم في خمس دول رئيسة هي العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال، حيث تدرك تنظيمات التطرف العنيف والإرهاب في هذه البلدان أن لديها فرصة في صراعات السلطة فيها، سواء عبر سيطرتها أو تمكنها من مناطق جغرافية معينة مثل سوريا والعراق والصومال، أو محاولتها لاستثمار الصراع بين الدولة ومعارضيها، كما هو الحال في الشأن اليمني.

عبر هذه الأنماط الثلاثة، يمكن وضع تصور تركيبي وتفسيري لحالة التطرف العنيف في المنطقة، وكذلك التفريق بين غاياته وأهدافه، بين حروب التنظيمات الميدانية المباشرة في مكان، وبين عمليات الخلايا و«الذئاب المنفردة» العابر في مكان آخر، وبين عملية التنظيمات الوسيطة والمجموعات الأضعف أمام الدول المستقرة أو الأجهزة الأمنية القوية.

هنا يجب التأكيد على ضرورة وأهمية الوعي باختلاف ظاهرة التطرف العنيف، وجماعاته وممثليه، فضلا عن إدارته، مع إدراك الترابط فيما بينها، أصولا وفروعا، وتشابكا أو تقاطعا جغرافيا وتنظيميا. كما يؤكد على ضرورة هذا الوعي بالاختلاف وإدارته لضبط الأزمة المصطلحية في التعاطي مع عمليات الإرهاب، عبر التمييز بين درجات الخطورة، وتجنب الانسياق وراء قاموس الإرهابي وإعلامه الدعائي. وهذا يتحقق بالتفريق بين العملية الكبيرة والصغيرة والمحاولة الفاشلة، خاصة مع تفهم أن العملية ليست إلا صوتا إعلاميا ونداء حركيا موجها لعناصر التنظيم والمتعاطفين معه، وحفزهم في الأصل، كما هو شأن أي بيان أو تسجيل أو فيديو منسوب للتنظيم وقيادات، تستهدف تأكيد حضوره أو مقاومته وعدم تراجعه.

&