يوسف مكي& & &

انطلاق الطائرات الروسية العملاقة من قاعدة همدان الإيرانية للمرة الأولى منذ 70 عاما يعد طورا سياسيا أكثر مما هو تكتيك عسكري

انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء وهزيمة دول المحور. وكانت خاتمة الحرب قد شهدت استخدام السلاح النووي، من قبل الولايات المتحدة ضد اليابان للمرة الأولى في التاريخ الإنساني. ولم تمض فترة قصيرة، إلا ويلحق الاتحاد السوفييتي بالنادي النووي، ليكسر احتكار الأميركيين لهذا النوع من السلاح.

ولأن التحالف بين البلدين قد حكمته ظروف الحرب الكونية، ولم تسنده عناصر أخرى، فإن من الطبيعي أمام الاختلافات العقائدية والسياسات الاقتصادية، بين أميركا والسوفييت، أن ينتهي هذا التحالف بنهاية الحرب، وأن يكون ما بعد توقف المعارك مغايرا تماما للحال أثناء احتدامها.

كان مسار العمليات العسكرية في الأيام الأخيرة للحرب قد أوجد وقائع جديدة على الأرض. فإعلان الانتصار جاء بعد وصول القوات المتحاربة إلى قلب برلين. وكانت الجيوش السوفييتية قد قدمت من الشرق بعد أن أنجزت احتلال دول أوروبا الشرقية، فيما قدمت القوات الأميركية وحلفاؤها من الغرب باتجاه ألمانيا.

وقد حكم الواقع الجديد صورة المشهد الجيوسياسي لما بعد الحرب، حيث انقسم العالم إلى معسكرين: غربي بقيادة الولايات المتحدة وشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. وكان لذلك إسقاطاته في انقسام العالم إلى نهجين سياسيين. نهج يلتزم بالنظام الديموقراطي على الطريقة الغربية، ونهج آخر شمولي يقوده الحزب الحاكم. وكانت تلك واحدة من أهم معالم الحرب الباردة بين القطبين.

وقد عمل الفريقان على إيجاد تحالفات عسكرية وسياسية تسند موقعهما في الحرب الباردة. وأهم تلك الأحلاف حلف الناتو بقيادة أميركا، وحلف وارسو بقيادة السوفييت. كما عملت أميركا على خلق تحالفات إقليمية فيما بات معروفا بمنطقة الشرق الأوسط، لمحاصرة الاتحاد السوفييتي، كان الأبرز بينها مشروع الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور لملء الفراغ بالشرق الأوسط، وحلف بغداد الذي شاركت في عضويته باكستان وإيران والعراق وتركيا والأردن. وبحدوث انقلاب 14 يوليو 1959، تغير اسم حلف بغداد إلى حلف المعاهدة المركزية، بنفس أعضاء الحلف السابق، ناقصا العراق. وكان الهدف الرئيس من هذه الأحلاف خلق منطقة عازلة بين الدب القطبي والمياه الدافئة بالجنوب.

حققت إيران وتركيا، بارتباطهما بالغرب، مكاسب كثيرة، ليس أقلها غض الطرف عن الخروقات التي تمارسها حكومتا البلدين، فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وضمان تأييد الغرب لهما في سياساتهما الخارجية. والأكثر من ذلك مساندة الغرب لهما، في قمع التطلعات القومية، للحركة الكردية في البلدين.

في أوائل التسعينات من القرن المنصرم، سقط الاتحاد السوفييتي ومنظومة الكتلة الاشتراكية، وتقلصت الحاجة الأميركية للمناطق العازلة. ولم يعد لكل من إيران وتركيا أهميتهما الإستراتيجية التي سادت أثناء الحرب الباردة.

اقتنصت طهران انشغال الإدارتين الأميركيتين لريجان وبوش، بتصفية تركة الإمبراطورية التي وصفها ريجان بإمبراطورية الشر، فأعادت بناء قوتها العسكرية، والدخول في مجال الصناعة النووية، بعد انتهاء حربها الضروس مع العراق.

من جهة أخرى، نشط الإسلام السياسي في تركيا بقوة، وتمكن من إيصال نجم الدين أربكان إلى رئاسة الحكومة. لكن قوة العسكر، ومحاولة الإخوان الخروج على الصيغة العلمانية، التي كرسها إرث أتاتورك، أطاحتا بهم سريعا. لكن عوامل كثيرة، بضمنها عزوف الغرب عن قبول تركيا عضوا بالاتحاد الأوروبي، ومشاعر المهانة التي شعر بها المسلمون عموما جراء عودة مناخات الحروب الصليبية، وبشكل خاص الغزو العسكري لأفغانستان والعراق، ودعم الكيان الصهيوني، خلقت بيئة ملائمة لعودة الإسلام السياسي في جمهورية أتاتورك وعودته إلى السلطة بقيادة رجب إردوغان وكان من أحد عوامل نجاحه، تبني سياسة تركز على الجنوب بدلا من الغرب، وتهتم بتصحيح الخلل مع جوارها الإقليمي، تحت شعار صفر مشاكل.

لم تمض فترة طويلة، إلا وروسيا، بقيادة فلاديمير بوتين تنهض من جديد. أعادت بناء قوتها العسكرية والاقتصادية، وبدأت تتحرك في الجمهوريات السوفييتية السابقة، وخرجت منتصرة من أزمة القرم. وحين حدثت الحركة الاحتجاجية في سورية انهمكت في الأزمة وأخذت قواتها تتموضع من جديد في البحر المتوسط.

المتغير الإستراتيجي الجديد هو انتقال إيران وتركيا من حلفاء للغرب إلى أصدقاء لروسيا. لقد أضاع الأميركيون حليفين إستراتيجيين، بتصور أن ما بعد نهاية الحرب الباردة ستكون مرحلة طويلة، لكن للتاريخ مكره وجبروته. ارتبط المتغير الأول بسقوط شاه إيران، وسار في خط بياني متصاعد، بلغ ذروته في الأيام الأخيرة، بمنح حكومة طهران المقاتلات الروسية حق الانطلاق من قاعدة همدان الجوية، بهدف معلن هو محاربة الإرهاب.

والمتغير الآخر هو دخول تركيا على الخط، بشكل مباشر في أوضاع سورية، بهدف إجهاض مخطط أميركي لإقامة دولة للأكراد، وقد عملت تركيا على إقامة منطقة عازلة، لإعادة ترحيل مهاجرين سوريين يقيمون على أراضيها، يقدرون بمليوني لاجئ، وإقامة سد بشري عربي في مواجهة التمدد الكردي، واعتبار إسقاط المشروع الكردي أولوية تتقدم القضاء على الإرهاب. وهكذا تغيرت الأولويات، كما تغيرت خريطة التحالفات، وفقا لمصالح الأطراف الموجودة على الأرض، وأعداء الأمس يمكن أن يتحولوا اليوم إلى أصدقاء. والمؤكد أن هناك توافقا إيرانيا تركيا، على محاربة فكرة "الدولة الكردية"، سواء في سورية أو على أي جزء من الجوار الإقليمي، وأن متغيرا حقيقيا طرأ على خريطة التحالفات في المنطقة بأسرها. والرابح الأكبر في هذه المتغيرات روسيا بوتين.

وليس من شك في أن انطلاق الطائرات الروسية العملاقة من قاعدة همدان الإيرانية للمرة الأولى منذ 70 عاما، يعد طورا سياسيا أكثر مما هو تكتيك عسكري، ويفتح صفحة جديدة في التحالف الإستراتيجي الروسي الإيراني، الذي بدأ يتعزز في المنطقة على حساب الدور الأميركي. إن استخدام الأراضي الإيرانية، لتنفيذ هجمات في سورية، لم يكن ضرورة ملحة بالنسبة للروس، بل هو أقرب إلى استعراض القوة. فالأساطيل الروسية موجودة في مياه البحر الأبيض المتوسط، وعلى سواحل طرطوس واللاذقية. لقد نجح الدب الروسي في صراع الإرادات مع غريمه اليانكي.

&