نديم قطيش

الاعتراف واجب بأن الخطاب المذهبي الفاقع لرئيس التيار العوني في لبنان، وزير الخارجية جبران باسيل، هو خطاب مسيحي تتجاوز شعبيته الإطار الحزبي لتيار عون!

المانع أمام الحماس الشعبي لهذا الخطاب ليس مضمونه الشعبي في البيئة المسيحية، بل شخصية الجنرال ميشال عون الإلغائية، وبالأخص شخصية جبران باسيل الفوقية الطاردة لأي تلاٍق مع الآخر أو المختلف!

القوات اللبنانية ليست بعيدة عن مضمون الخطاب العوني الراهن، وإن كانت تسجل اليوم نقاط اعتراض على شكل المعركة التي يخوضها باسيل، وتوقيتها. وشهية الدكتور سمير جعجع لـ«تنقية» الحياة السياسية المسيحية من «الشخصيات المستقلة» لا تقل عن شهية عون، كما تتساوى شهيتهما لتضييق نادي من يحملون الصفة التمثيلية المسيحية حتى على مستوى الأحزاب!

خطاب باسيل إذن هو إلى حّد ما خطاب «جماعة»، وليس خطاب حزب أو فريق سياسي، وبشكل أدق: خطاب يحظى بشعبية وازنة داخل «الجماعة المسيحية» لا يمكن تجاهلها.

صحيح أن المعركة يتصدرها عنوان الانتخابات الرئاسية، لكنها في العمق معركة مع الدستور القائم، ومحاولة لتعديله بالعرف وبقوة الأمر الواقع، ما دام متعذًرا تعديله بالنص حتى الآن. مضمون المعركة، خلاًفا للدستور، يسعى لفرض عرف يقول إن المسيحي الأقوى بين المسيحيين هو الرئيس الحكمي للجمهورية اللبنانية، وهو ما لم يسبق أن تحقق في ذروة المارونية السياسية. فبعد الاستقلال عام 1943، انتخب البرلمان بشارة الخوري رئيًسا، بدلاً من «الأقوى» في حينه إميل إده. وعام 1970، فشل الحلف الثلاثي المسيحي، الفائز بالانتخابات النيابية قبل سنتين، في إيصال أي من أركانه الأقوياء، بيار الجميل وريمون إده وكميل شيمعون، إلى سدة الرئاسة، ما دفعهم للتوافق على انتخاب سليمان فرنجية رئيًسا!

وما بين الاستقلال وانتخابات الـ70، بل وصولاً إلى الانتخابات الراهنة المعلقة، لم يصل أي من «الأقوياء»، باستثناء بشير الجميل، الذي اغتيل قبل دخوله قصر بعبدا! هي معركة إذا مع الدستور، ومع تاريخ التجربة اللبنانية.

ويتغذى خطاب باسيل، اليوم، من تشوهات التجربة اللبنانية إبان الاحتلال السوري للبنان، التي أمعنت في تهميش المسيحيين، أي مسيحيي الحرب الأهلية، في مقابل استحواذ مسلمي الحرب الأهلية، لا سيما الشيعة، على الحكم، بالشراكة مع قيادة سنية وافدة من خارج نادي الحرب الأهلية، ولكن ليس من خارج مشروع سنة الحرب الأهلية! فلم يكن رفيق الحريري زعيًما لميليشيا، لكنه بصفته عراب اتفاق الطائف، مَّثل بعد انتهاء الحرب جزًءا من مشروع سنة لبنان خلال الحرب، أي الجزء المتعلق بتعديل ميزان الشراكة بين المسلمين والمسيحيين داخل النظام. وخفف الحريري في المشروع السني، الارتباط العملي والميداني بالقضية الفلسطينية، وتحويل لبنان إلى ثكنة لمنظمة التحرير، وأشعل في نفوسهم جذوة الوطنية اللبنانية. لكنه مثل، ومارس أيًضا، جانب الإصلاح السياسي، وتعديل ميزان الشراكة الذي رفعه المسلمون عشية الحرب الأهلية. 

ولا يكفي أنه عوقب من قبل سوريا، ووضعت قيود صارمة على زعامته وحدود توسعها، أو أنه لإعادة النهوض بلبنان اضطر لغض النظر عن الإجحاف السوري بحق المسيحيين، كي تسقط عنه تهمه اشتراكه في تهميش المسيحيين، أقله بالنسبة للخطاب المسيحي الراهن وبعض أصحابه.

والخطير فيما يجري أن مشروع حزب اللهلم يتغير، لا سيما بصيغته التي استقر عليها إثر خروج سوريا من لبنان. حزب الله يستخدم «إحباطات الموارنة» لإضعاف حيوية القيادة السنية التي شكلت مصنع السياسة منذ الطائف حتى الانتخابات النيابية عام 2009. والموارنة يستخدمون عضلات الشيعية، أوُيخَّيل لهم ذلك، لانتزاع ما «أخذه المسلمون»، أي السنة في لا وعي جبران باسيل. لم تكن زلة لسان حين قال قبل أسابيع إنه ما عاد مقتنًعا بالتعايش «مع المسلمين»، فيما هو في تحالف جبار مع الشيعة! في عقله أن المسلمين هم السنة، وأن الشيعة، كما الموارنة أو العلويين، «أقليات»!

ما لا يدركه المتحمسون لخطاب باسيل، المعلن منهم والصامت، أنه على عكس العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة الأكثر ثباًتا وديمومة وحصانة، فإن العقد بين الجماعات متغير متحرك. وأزمة العقد الاجتماعي بين الجماعات، هي أن هذا العقد يفتح شهية تغييره كل مرة تتغير فيها موازين القوى ومصادر قوة الجماعات، صعوًدا أو هبوًطا.

وبعد الخلاص من حيوية القيادة السنية، وقدرتها على قيادة مشروع لبناني متعدد يتجاوز الهم المذهبي للجماعة السنية، لا توجد ضمانات أن يقبل الشيعة بنظام الشراكة نفسه مع المسيحيين! ولم يخِف الشيعة، بقيادة حزب الله، رغبتهم في عقد مؤتمر تأسيسي، ودغدغوا بذلك رغبات دفينة طافية عند المسيحيين، ولم يترددوا في أحيان كثيرة في التعبير عن شهوات إضافية في السلطة التنفيذية، تجعل من لبنان نظاًما يدار بلعبة التوازن بين «الفيتوات» المذهبية، في تشويه متعمد لمنطق الديمقراطية التوافقية.

انتخاب ميشال عون رئيًسا اليوم يضع هذا المشروع على سكة الانطلاق، لأنه سيكرس أعراًفا لا علاقة للدستور بها، وسيمنح شرعيًة لخطاب مؤداه العملي إلحاق لبنان كاملاً بإيران ونفوذها.

الحقيقة يجب أن تقال؛ إن مسؤولية مواجهة هذا المشروع لبنانية وعربية، ولا مكان فيها لحسابات خارج هذا الإطار، أًيا تكن أولويتها. ومن الظلم القول إن لبنان دولة محتلة، وبلا مقاومة، وإن كان سقف المقاومة هو الصمود، وليس الانتصار.

إذا كان خيار إعدام لبنان قد اتخذ عربًيا، فليكن هناك تنظيم سلمي لتسليم البلد لإيران، وإن كان الظن بأن القرار قد اتخذ هو مجرد ظن خاطئ، فأين السياسة العربية لإنقاذ لبنان؟.