هوشنك وزيري

ثمة بعد رمزي في الجهل الكامن في سؤال المرشح الرئاسي للانتخابات الأميركية غاري جونسون عن حلب، ما يُكسبه تمثيلاً جماعياً عابراً لشخصه باعتباره مجرد فرد سياسي واحد. فمحنة هذا الجهل انه يملك قوة الإحالة الى جهالات أخرى كثيرة، جهل جورج بوش وادارته أو جهل دونالد ترامب الذي يدعي معرفة أفضل من معرفة الكثير من الساسة والجنرلات، مجرد نماذج منها. 

وهو يحمل من البلاهة وقسوتها ما يكفي لأن يحيل الى البَلادة السوداوية التي تحملها العبارة الفرنسية التأريخية السيئة الصيت «دعهم يأكلون الكعك» التي لطالما رمزت الى مآساة الجهل السياسي، والمنسوبة صواباً أو خطأ الى ماري أنطوانيت.

فقد أثار المرشح الرئاسي عن الحزب التحرري «الليبرتاري» خلال مقابلة تلفزيونية أجرتها معه قناة MSNBC الاسبوع الماضي، الصدمة والكثير من الاستهجان حين طرح سؤاله الذي كان محض استفهامياً «وما هي حلب؟»، ظناً منه ان اسم حلب مجرد حروف اختصار لشيء ما. سرعان ما اكتسب السؤال صيتاً سيئاً واسع الانتشار داخل أوساط الإعلام الأميركي ووسائل التواصل الاجتماعي جاعلاً جونسون يبدو كأبله في شؤون السياسة الدولية.

جاء سؤال جونسون رداً على سؤال وجهه له مضيفه الصحافي مايك بارنكلي حول ما الذي سيفعله حول حلب اذا ما تم انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، فسأل جونسون بقصد الفهم والاستفسار: «وما هي حلب؟»، فلم يكن أمام مايك إلا أن يجيبه بسؤال آخر «انت تمزح؟».

لم يكن جونسون يمزح في جهله المطبق ليس باسم حلب فقط بل بكل ما يدور فيها من مآسٍ تدخل عامها السادس.

لكن ردود الفعل وعاصفة التعليقات الساخرة التي أعقبت السؤال ركزت في جوهرها على جهل جونسون الفردي، وهذا فيه شيء من المشروعية، باعتباره هو الذي طرح السؤال فاضحاً عن هذا الجهل المقدس وجعله ملهاة مثيرة للسخرية. وفي إهمالها جهل الآخرين ومن ضمنهم المرشحان الجمهوري دونالد ترامب والديموقراطية هيلاري كلينتون، وكأنهما يفيضان بأفكار ورؤى استراتيجة لصياغة حلول لأزمات المنطقة، جعلت حملة الردود من جونسون كبش فداء لهذا الجهل المقدس وأكسبته مصيراً، وإن كان رمزياً، شبيهاً بمصير صاحبة عبارة الكعك الشهيرة.

لكن الجهل بحلب والسؤال عنها، والمدينة هنا تحضر نيابة عن مآساة سورية وتمثيلاً لها، لا يمكن حصره فقط بمرشح رئاسي مغمور كجونسون. فمحمول السؤال وكيفية صياغته ولحظة طرحه في سياق انتخابي يتسابق في الادعاء بالمعرفة بهدف اقتراح الحلول، كل هذا يجعله يتجاوز الفرد الواحد ليتحول ممثلاً وناطقاً باسم بنية سياسية عامة إحدى سماتها الجهل، ليس الذي يولد من عدم المعرفة بـ «الشيء»، بل الجهل الذي ينتج من اللاأبالية الأخلاقية بما يحدث لـ «الشيء». 

وبامتلاكه هذا البعد الشمولي يعكس هذا السؤال الذي يتشكل من خليط غريب من الجهل والغباء والعجز عن الفهم، مسألة سورية في واشنطن، فينوب جهل جونسون رمزياً عن جهل مدينة واشنطن، ليست فقط كعاصمة سياسية كبرى تعتبر أهم مركز للقرارت العالمية، بل جهلها حتى كعاصمة لمراكز جمع المعلومات وإجراء البحوث، وهي التي لطالما غذى وساعد خبراؤها الكثر مراكز القرار السياسي في كل من البيت الأبيض والبنتاغون على عملية فهم وتعليم و «تبسيط» القضايا الدولية. فكما قال لي أحد العاملين في واحد من أهم مراكز البحوث في واشنطن أن «مديره الخبير» يطلب منه اسبوعياً ان يكتب «ثلاث فقرات قصيرة بسيطة» حول مستجدات الوضع السوري. وعلى رغم ان هذا المثل لا يمكن تعميمه إلا انه يقول الكثير حول كيفية فهم هذه المراكز لما يحدث في العالم.

وقد يستمد جهل جونسون جذوره الشرعية من الجهل الأميركي بالعراق قبل 2003، حين لم يكن نصف أعضاء الكونغرس سمعوا بالشيعة أو السنة مرددين «وما هي الشيعة؟» أو «وما هي السنة؟»، ثم باتوا يختزلون العراق كله، ساعدهم في ذلك عراقيون، بعد 2003، الى الشيعة والسنة فقط. لكن الجهل تقليد أعمق بكثير تاريخياً، وهناك شيء ما حول أميركا وتقديسها للجهل السياسي.

«وما هي حلب؟»، سؤال يقترح في أحد أبعاده استمرارية الشلل السياسي الأميركي ازاء المأساة السورية، لكنه في جوهره ليس إلا تعبيراً مثالياً عن ملهاة جهل واشنطن بمأساة الدم السوري.


* كاتب كردي