أحمد السيد عطيف

اليوم الوطني يوم إظهار الحب، قليل على الوطن يوم واحد لكن هكذا جرت عادة الشعوب، تخصيص يوم واحد لإظهار الحب للتراب والناس، للدار والجار والتاريخ والذكريات.

ستة وثمانون عاما من ذهب المعاناة ولذة التوحيد، من البناء الذي لا يتوقف، والحلم الذي يكبر كلما "مرجحت" أم طفلها على هذا التراب الزكيّ.

ستة وثمانون عاما هي عمر أبي تماما، جنى أول فوائد الوطن حين التحق بالتعليم وهو في الثلاثين من عمره، وأضاف إلى نشاطه اليومي الرتيب نشاطا آخر حين أسست الحكومة معهد صامطة العلمي، أتاح له ذلك أن يذهب أبعد وحيث لم يكن يتوقع، وسافر إلى الرياض ليكمل تعليمه الجامعي، لم يكن ليسافر إلى الرياض لولا أمان الطريق ولذة التوحيد ووعود الرياض بعيشة رغدة. لم يكن أبي وحده من تعرف على الرياض في تلك الفترة بل أعتقد أن آباء كثيرين مثل أبي وفدوا إلى الرياض آنذاك للدراسة والعمل، كان ذلك مبكرا حتى قبل أن يعرفوا معنى وطن أو معنى عاصمة أو دولة.

وأبي في الرياض كانت المدارس الابتدائية تتكاثر في جيزان التحقتُ بأقربها في أحد المسارحة، على بعد 3 كم من قريتي، هذا في أواخر الثمانينيات الهجرية، لم تكن البلاد قد دخلت طفرة البترول الأولى، ومع ذلك فقد وفرت الحكومة لنا سيارة نقل وتغذية ورعاية طبية مستمرة وملابس للرياضة وللمسرح! وبصراحة لم نعرف من الذي وفّرها حتى كبرنا وعرفنا أنها الحكومة، حين وصلتُ السنة الخامسة الابتدائي افتتحت الحكومة مدرسة في قريتي التحق بها إخواني الأصغر سنا، وحين وصلتُ إلى الصف السادس افتتحت الحكومة مدرسة ابتدائية للبنات في أحد المسارحة التحقت بها أخواتي.

غير قريتنا لم نكن نسمع سوى عن مكة بحكم الحج ثم صرنا نعرف مدينة اسمها الأحد ثم صامطة وسمعنا الرياض ثم عرفنا جيزان، لقد اتسعت دارنا وصار لنا مصالح هنا وهناك لا ضامن لها سوى الأمان والرعاية التي تعهدت بها الدولة مبكرا. 

أيام كنت في الثانوية أفكر بالسفر البعيد للجامعة في الرياض فاجأتنا الرياض بجامعة في عسير، بدل أن أغيب عاما كاملا عن أسرتي منحتني الرياض الفرصة لأغيب عنهم أسبوعا واحد فقط، ها هي منطقة أخرى اشتبكت بمصالحنا وحياتنا، صرنا نعرف معنى الوطن الواسع ومعنى الوحدة الوطنية والمصالح الوطنية.

سأعود لأعمل في التعليم ويعود معي زملائي، وستقوم على أكتاف بعضهم جامعة جيزان وسيلتحق بها أبنائي وأبناؤهم الذين لن يغيبوا عنا بالسنين كما غاب أبي، ولا بالأسابيع كما غبت أنا، بل سيذهبون لجامعتهم صباحا ويعودون مساء وينامون إلى جانبنا كل يوم في أمان الله وفي رعاية الرياض.

طلبت التقاعد مبكراً وعملت مزارعا هاويا، على بعد أقل من 30 كم من الحدود اليمنية السعودية، أسمع في الليل أصوات المدافع من بعيد وتمر من فوق مزارعنا مروحيات القوات المسلحة، أنصرف كل ليلة لأنام مع أسرتي وهم يجوبون السماء الشريفة والأرض الزكية، يصونون الشرف الرفيع من الأذى، يبيتون بصدورهم في استقبال كل رصاصة تستهدفنا أرضاً وأمناً ومستقبلاً.

هؤلاء الفتيان الذين يتوحدون مع التراب والحجارة ويفدون إلينا بأنفسهم ليسوا من الأحد وحدها ولا من جيزان وحدها ولا من الرياض وحدها، هم من كل جداول شرف الوادي السعودي العظيم، ممن صلّت جباههم وجباه آبائهم على ثراه الطيب وأقسمت على حماية ترابه المقدس.

نحن اليوم أقوى بكثير من يوم وفرت لنا الدولة سيارة نقل رغم شح مواردها آنذاك. نحن أقوى بكثير من يوم ضحّى كرامنا بأرواحهم لتوحيد هذه البلاد.

نحن نخوض في وقت واحد حروباً عسكرية وتنموية وعلمية وثقافية، نحن عندنا أحلام نسيجها ممتد من يد الرياض إلى أصابع أبنائنا وبناتنا من أقصى مدرسة في جيزان حتى أقصى أرض لنا فيها مبتعثون ومبتعثات، وسنكمل النسيج وسيكمله أحفادنا.
لن نفرط في حلمنا، لن نغفل عن وطننا.

تحيا المملكة العربية السعودية.
تحيا المملكة العربية السعودية.