& إبراهيم المطرودي


الأمة اليهودية، هي الأمة التي تُعدّ ندا مخيفا لنا في القديم والحديث، فهم أجدر أن يدفعوا بنا في سبيل اليقظة، ويُحركوا بحركتهم سكوننا؛ لأن منافستك مع القريب أولى، وأثرها عليك أغلب، فهل نستطيع فتح عيوننا على سيرتهم في هذا العصر؟


الكره يطمس البصيرة، ويُفقد الإنسان اتزانه، فلا يجد لمنافسه في ذاكرته حين يجتال فيها سوى مجموعة من العيوب، وحزمة من الثغرات، فتبدو سيرته موسومة بمحطات، كل محطة تُريك عيوبه، وتُثبت لك أنّ هذا الإنسان أو هذه الأمة فقدت الخير كله، والصلاح أجمعه، والفلاح برُمته، فتعفّ النفس عن أن تفكر لحظة واحدة في الاستفادة مما عليه هذا الإنسان أو تلك الأمة.

والثمرة المرّة التي يجنيها الكاره هي فقدان القدرة على التعلم من منافسيه، وفقدان التذكر لمحاسنهم، فيفقد أعز شيء في الإنسان، وهو تعقله ومعاصرته لزمانه؛ لأن من لا يستفيد من منافسيه في هذا العالم سيضطر في النهاية إلى الخروج منه، والتمرغ على هامشه، والوقوف على أطلال ما مضى من تأريخه.

الآخرون الذين أريد الحديث عن تجربتهم، والتأمل لتأريخهم الحديث، هم الأمة اليهودية، ففي ظني أنّ هذه الأمة في العصر الحديث من أحق الأمم بإطلاق قول الله ـ تعالى ـ:(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) عليها، فأبناؤها لا نسمع ولا نرى في ثقافتنا اليوم عنهم إلا السب والشتم، وتعداد المثالب، وتدوين السيئات، لم أر يوما من يتحدث عن تجربتهم الحديثة، وخروجهم مما كانوا يعيشون فيه، من تضييق الأمم، وتكالبها عليهم، لم أقرأ يوما لمسلم يحثنا على تقليب سيرة هذه الأمة في العصر الحديث، والتعرف على سبلها في الخروج من التهميش حتى أضحت في نظر كثير منا الأمة التي تقود العالم عبر منظماتها، وتفرض إرادتها عليه.

تخيّل الآن أنّ بعض قومك أضحوا قادة دول العالم بعد عقود، قصيرة أم طويلة، وكانوا يوما ما تحت سلطتك، وفي تدبيرك، ما الذي ستفكر به حينذاك؟

ستقول: يا لهم من عفاريت، يا لهم من شياطين، أم ستتأمل سيرتهم، وتتحسس طريقهم؛ لتعلم كيف صاروا إلى ما هم عليه، فأصبحوا قادة بعد أن عاشوا رعية، وأمسوا وأمم الأرض ـ حسب تعبير كثير منا اليوم ـ رعايا لهم.

إن التحذير الصادر من بعض الآباء الأولين لأميركا تجاه اليهود، ودخولهم إليها، لم يمنعهم من بناء مجد لهم فيها، أضحينا نحسدهم عليه، ونسعى لتفسيره بأسلوب يُفقده الروعة، ويُنسينا الجهود المبذولة فيه، وقادنا هذا التعامل الرديء إلى عدم التفكير في دراسته، وتأمله، والبحث وراء أسبابه، واكتفينا ـ نحن اللغويين ـ بالتعجب من إحيائهم للغتهم (العبرية)، وقد كادت تنقرض!

نعجب من صنيعهم للغتهم، ونذر العجب الأكبر في بنيانهم تلك المكانة، التي جعلت العالم يأخذ بخاطرهم، وينسى خاطرنا.

أمة توشك أن تنقرض لانقراض لغتها، التي تحمل تراثها، وقيمها، ومُثُلَها؛ فثمة ارتباط بين انقراض اللغة وانقراض الأمة، ثم تنبعث من جديد، وتحيي أملا ـ كان بعيدا ـ في نفوس أهلها، أفلا تستحق منا شيئا من الدراسة والنظر الدقيق في تاريخها الحديث؟!

أتدرون ما اللغز الذي أراه أطرف من لغز اليابان، وأجدر بالدراسة منه، وأولى بالتفحص؟ إنه لغز الأمة اليهودية التي خرجت من تحت الركام! فاليهود هم الأمة التي تعرضت في العصر الحديث ـ ودع الماضي ـ للتضييق من جميع الأمم تقريبا، حتى صارت لهم أحياء خاصة بهم، وسعت الشعوب إلى إخراجهم، والبحث لهم عن موطن! أمة تُعزل عن الحياة، وتُبعد؛ لكنها تظل حية يقظة، تسير في بناء مستقبلها، وينتهي أبناؤها إلى قمة الهرم العلمي والفكري والاقتصادي.

كان يُظن بهذا النجاح أن يقودنا إلى الاستفادة منهم، بعد التدبر لحالهم؛ خاصة مع كثرة حديثنا عن الانتفاع من نجاح الناجحين، وفلاح المفلحين، فلماذا لم يحظَ أبناء هذه الأمة ـ وإن كانوا من أعدائنا ـ بدراسات حول خروجهم من النفق المظلم، الذي كان العالم يريدهم أن يبقوا فيه؟ لماذا شغلنا اليابانيون مع أن اليهود أقرب إلينا، وأشبه بنا الآن حالا، وأجدر أن نتأمل في تأريخهم الحديث، فهم أعداؤنا في القديم والحديث؟

شُغلنا عن معجزة هذه الأمة بالحديث عن معجزة أمة اليابان، فكتبنا كثيرا في معجزتهم، وهم الذين يبعدون عنا آلاف الأميال، ولم نعش نحن وهم في مجتمع واحد في الماضي الغابر أو القريب، ومع كل هذه الظروف التي تفصلنا عن بعض، إلا أننا اتجهنا إليهم، واهتممنا بنهضتهم الحديثة، وصارت إحدى بؤر حديثنا، ونقطة بدء في كثير من حواراتنا، وتجافينا عن معجزة الأمة اليهودية، الأمة التي يهولك حضورها في خطابنا الديني والثقافي، وهي الأمة التي تُعدّ ندا مخيفا لنا في القديم والحديث، فهم أجدر أن يدفعوا بنا في سبيل اليقظة، ويُحركوا بحركتهم سكوننا؛ لأن منافستك مع القريب أولى، وأثرها عليك أغلب، فهل نستطيع فتح عيوننا على سيرتهم في هذا العصر؟

هل نملك من الحياد ما ينسينا العداء؛ لنستفيد من خارطة الطريق اليهودية، التي كانت بدايتها مؤسفة؛ لكن خاتمتها أن أضحت هذه الأمة هي شغلنا الشاغل، وخوفنا الدائم، فمن قواعد الذكاء أن يعتني الإنسان بمصدر الخطر، ويُوليه اهتمامه، ومن عنايته به أن يتدبر كيف أصبح خطرا عليه؟ كيف تحوّل إلى كابوس جاثم على صدره، ولن نستطيع ذلك دون أن تنفتح عقولنا على الفلاح الذي حققته هذه الأمة، واستطاعت به أن تُشارك ـ مع قلتها وشتاتها! ـ في صناعة الرأي العام العالمي حتى أصبحت مضرب المثل في اختراق أي قرار، لا يُعزز وجودها، ويُبقي نفوذها، هذه ـ أيها السادة ـ أمة، تستحق أن يوقف

أمام جهودها أزمانا طويلة، وأدهرا مديدة، وهي عندي أحق من اليابان بالاستغراب والتعجب، وما حققته من مجد دفعت قيمته من جهودها، وتخطيطها، وحسن تدبيرها، فعالم اليوم لا يؤمن ـ كما يحب كثير منا ـ بأمر الدين والديانة، وإنما يؤمن بمصالحه، والمشاركة في صناعة الحياة، هذا هو منطق الحياة الغالب اليوم، وبمقدار ما تملكه منه يكون تأثيرك، وبالاعتصام به استطاع اليهود أن يبنوا لهم هذا المجد، الذي يزلزل تفكيرنا، ويحسدهم عليه أكثرنا! مع أن عالم اليوم لا يعطيك شيئا بلا ثمن تدفعه، وجهد تبذله.

لا أظن أمة يحرجنا حالها أشد من الأمة اليهودية، هذه الأمة نتناسى اليوم ما تعيشه من رفاه، وتقدم، ومشاركة في صناعة ثقافة العالم، ومن يتحدث عنها عندنا، تراه مشغولا بالتحذير مما تصنعه، وتدسه في الفكر العالمي، من خبث، وسم! وهذا ـ كما يعلم السادة ـ هو دأب الخائفين، وديدنهم في مواجهة من يخالفهم، في بلادهم كان أم في بلاد الصين، فلدى الخائفين علاج واحد، يواجهون به كل ما يعترض طريقهم، ويتسوّر عليهم هدوءهم.

في أجواء ثقافة المؤامرة المنتعشة اليوم، واللاصقة بكل ذرة من ذرات العقل، المكون بالوعظ، والمعجون به، ذلك الخطاب الذي يركز على محيط الدائرة، ويدع مركزها، يرد هذا السؤال: كيف استطاع اليهود، والعالم يتآمر ضدهم، أن يخرجوا من حالة التهميش، ويُضحوا أكثر الأمم لنا إحراجا، وأبعدها فينا أثرا؟ كيف نالت هذه الأمة ما لم نستطع نواله، مع الفارق العظيم بيننا وبينهم في كل شيء، في العدد، واتساع المساحة الجغرافية، ومقدرات الأوطان؟

والسؤال الذي يخطر في بالي هو لو كنا محل هذه الأمة، وكان العالم يُنصت لما نريده، ويأخذه في اعتباره، ويضعه تحت نظره قبل أي قرار يتخذه، أكنا نلومه على ذلك، ونستغربه منه، ونسعى أن نكون نحن والعالمون في نظره سواء! أم نقول كما يقول الناس عندنا اليوم: من حصّل شيئا يستاهله!؟ أجيبوا أيها الفضلاء، فهذا استفتاء!.

اليهود أمة منافسة، والحياة منافسة، والفرق بيننا وبينهم ليس في محبة العالم لدينهم، وكرههم ديننا، وإنما في فهمهم منطق العصر، وروحه، وجهلنا بهذا المنطق والروح، حين قادنا فريق من الوعاظ الذين ينظرون إلى كل ما يجري في هذا العالم، صغيرا كان أو كبيرا، من خلال منظار الدين والكيد له، فصارت نجاحات الأمم، والناجح يقود في الحياة غير الناجح رغما عنه، مُصوّبة إلى ديننا، ومرادا منها زعزعة قناعات أهله به، لم يستطع كثير من الوعاظ أن يدرك أن المنافسة محتدمة بين الأمم، وليس بين أديانها، وستظل حالنا، كما هي الآن، حتى يأذن الله ـ تعالى ـ بجيل يُجاري الأمم في انتفاعها من تجارب الآخرين، وعدم خوفها منها، جيل لا يمنعه دينه وإيمانه به من أن يُخالط غيره ويثق به، ويُحسن الظن بما يُنتجه من أفكار ورؤى ونظريات، جيل يُنافس تلك الأمم في صناعتها الأولى، صناعة الحياة، حينها سيبصر كثير من الوعاظ تغير نظرة الأمم إلينا، وحينها سيندمون ـ ولات ساعة مندم ـ على أزمان قضوها في ملء رؤوس الناس بأن تلك الأمم مشكلتها معنا في ديننا، ذلك الدين الذي يقولون عنه: إنه دين الفطرة، والعقل، والمنطق، فاعجب لدين، هذه صفاته، ثم يقف العالم في نحره، ويتآمر على أهله!.