&عبد المنعم سعيد&

الآيديولوجيات «الفاشية» في عمومها تعتمد، ضمن أمور كثيرة، على أمرين أساسيين: الأول تقطير الإنسان بمعنى تخليصه من كل ما له علاقة بالعقل الخاص من منطق وفهم وعلاقات سببية أو تحولات تطورية أو ثورية؛ ثم بعد ذلك ملؤه بمنطق بسيط يسيطر على سلوكيات البشر ويجعلهم يتحركون بالسمع والطاعة لجماعة من المبشرين بمجد خاص. هكذا كان الإنسان المحارب في إسبرطة القديمة، كما أصبح الإنسان الفاشي والآخر الشيوعي والثالث الاشتراكي والرابع النازي. وفي العصر الحديث، وفي منطقتنا صار هذا الإنسان «المؤمن» بما يقال له من «القاعدة» أو «داعش» ومن قبلهم «الإخوان المسلمون» وأشباههم. الأمر الثاني هو فكرة كبيرة، على الأغلب إمبراطورية، تبشر أحيانا بمجد غابر، وأحيانا أخرى تعد بمجد قادم؛ وبشكل ما فإن هذه الفكرة لها تماس مع القدر بحيث إن لها «حتمية» منطقية عندما تكون «علمانية» مثل الفاشية والنازية والشيوعية، أو حتمية دينية منزلة من السماء كما تدعي كافة الجماعات الإرهابية. وهكذا فإن هذه الآيديولوجيات ولدت أفكارا عن عودة الإمبراطورية الرومانية، والرايخ الثالث، والأممية الشيوعية، ودولة الخلافة. في هذه الحالة الأخيرة، فإن الفكرة هي عودة «الخلافة» مرة أخرى، لكي تعيد المجد القديم، وتكون «الجنة الموعودة» التي يموت من أجلها هؤلاء، وتدمر من أجلها المدن، ويضيع معها الدول إذا كان ذلك ضروريا.

الفكرة هكذا محورية في الفكر الإرهابي، وإذا كانت الحرب ضد الإرهاب ليست عسكرية أو أمنية فقط وإنما هي فكرية لها علاقة بالعقول والقلوب فإن الاجتهاد واجب، وتجديد الفكر الديني بات ضرورة ملحة. والمسألة في جوهرها لها جانبان: جانب ديني وتاريخي وله علاقة بتطور الدولة في العالم الإسلامي، وكيف بدأت في الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، وكيف انتهت إلى دولة الخلافة التي مرت بدورات «أموية» و«عباسية» و«عثمانية» كان لكل منها شخصيتها الخاصة، ولكن ما جمعها جميعا، ووضعها في السياق التاريخي، أنها كانت إمبراطوريات واسعة صدق عليها ما صدق على تلك الإمبراطوريات من صعود وسقوط، ومن قوة وضعف. الجانب الآخر يتعلق بالدولة الإسلامية العربية الحديثة، وكيف تكيفت أصول الحكم والإدارة فيها مع حقائق دولية كبرى مرت على العالم منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وعلى الجانبين فإن فكرة «الخلافة» ظلت فكرة رمزية، حاول مفكرون وملوك إحياءها بشكل أو آخر؛ ولكنها في كل الأحوال حاليا فإنها باتت وسيلة للتجنيد وجذب العناصر الإرهابية، لكي تدافع عن دولة خلافة مزعومة تتأرجح حدودها على جانبي الحدود العراقية السورية.

الجانب الأول يحتاج إلى اجتهاد فقهي من العلماء والمتخصصين، وعلى أي الأحوال فإن مناظرة كبرى جرت منذ عشرينات القرن الماضي حول مسألة دولة الخلافة بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924. ولكن الجانب الثاني ربما يحتاج لاجتهاد أكبر ليس فقط، لأنه يمثل عقدة الحياة السياسية للدولة العربية المعاصرة، وإنما لأنه يقف في مركز الصراع الحالي بين الدولة والإرهاب. صحيح أن هناك عناصر وعوامل أخرى متداخلة مع هذه المسألة؛ إلا أن التحليل يقتضي تحرير القضية بحيث تكون أكثر نقاء ووضوحا. والحقيقة الأولى أن آخر دول الخلافة التي استمرت لأكثر من أربعة قرون من بداية القرن السادس عشر، وحتى أوائل القرن العشرين، فإنها بدأت في التهالك مع نهاية القرن الثاني من وجودها، وظلت تتعرض لعوامل التآكل والضعف والتراجع حتى باتت رجل أوروبا ـ والعالم ـ المريض.

والحقيقة الثانية أن الدولة العثمانية على اتساعها وترامي أطرافها في العالم الإسلامي، لم تنجح في الدفاع عن المسلمين؛ وأكثر من ذلك أنها لم تكن مختلفة لا في المظهر ولا في الجوهر عن الدول الاستعمارية الأخرى في استنزاف ثروات طائلة، وأكثر من ذلك أنها سمحت لها باختراق أرض الخلافة وتوابعها.

والحقيقة الثالثة أن العالم كله لم يعد متقبلا للفكرة الإمبراطورية في أي شكل كانت، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى انهارت ليس فقط الإمبراطورية العثمانية وإنما أيضا الإمبراطورية النمساوية المجرية، وكانت نهاية الحرب العالمية الثانية (ومن بعدها حرب السويس 1956) إيذانا بنهاية الإمبراطورية الفرنسية والأخرى البريطانية، ونهاية الحلم الإيطالي بعودة البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية. ومع انتهاء الحرب الباردة انتهت الإمبراطورية الروسية المسماة آنذاك بالاتحاد السوفياتي، ومعها دول مركبة أخرى مثل يوغوسلافيا.

والحقيقة الرابعة أن الدولة العربية الحديثة لم تولد فقط بسبب عناصر خارجية، دولية أو استعمارية، وإنما أكثر من ذلك نتيجة إرادة داخلية شكلتها تحالفات بين قوى اجتماعية وجدت في «الدولة» الغطاء والدرع والحماية لمصالح وإرادات أرادت تحقيق سلطة مركزية. وفي الواقع فإنه فيما عدا منطقة الهلال الخصيب فإن نصيب القوى الخارجية في تشكيل الدولة العربية الحديثة كان محدودا إن لم يكن هامشيا، وفي العادة اقتصر على ما تؤدي إليه عملية المقاومة والرفض من عمليات انصهار داخلي. حدث هذا بقوة في دول شمال أفريقيا العربية، وفي دول الجزيرة العربية؛ وحتى في منطقة الشام وسوريا الكبرى والتي جرى عليها خليط من الوعود والاتفاقيات الاستعمارية، فإن الدول التي ولدت فيها دارت حول حواضر عربية تاريخية مثل بغداد ودمشق.

والحقيقة الخامسة أن الدولة العربية الإسلامية الحديثة ولدت في خضم الصراع مع الاستعمار، أو أنها ولدت من رحم عملية توحيد تحت قيادة تاريخية، كما جرى مع المملكة العربية السعودية. ورغم أن الدين الإسلامي ظل دوما جزءا أساسيا من «هوية» هذه الدول، فإن «الحداثة» هي الأخرى أعطت الدولة روحا معاصرة متفاعلة مع سوق موحدة، وتكنولوجيا تنقل القيم والتقاليد، وتحديد أكثر نصوعا ووضوحا مع الآخر في العالم. وفي الحقيقة فإن الصراع الدامي الحالي في المنطقة، سواء كان في وجه الراديكالية «الداعشية» في العراق وسوريا ومصر ودول شمال أفريقيا في عمومها، أو الراديكالية الأخرى الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، من الممكن أن يكون اختبارا للدولة الوطنية، بحيث تخرج منه وقد باتت أكثر قوة وصلابة.

الأمر بالتأكيد فيه أكثر من ذلك، وباب الاجتهاد مفتوح فقهيا وموضوعيا، ولكن المعركة الراهنة الممتدة على جبهات واسعة في الجغرافيا؛ فإنها في ذات الوقت سوف تظل معنا لفترة لا يمكن حسابها حاليا. ولأن الأمر كذلك فإن جزءا مهما من عملية الصمود الراهنة سوف يكون بالتأكيد اعتمادا على عناصر مختلفة للقوة الاقتصادية والعسكرية؛ وبقدر ما أن للسياسة دورها في بناء التحالفات والتعامل مع قوى إقليمية ودولية لها مكانها في الصراع من ناحية المصالح، إلا أن هذه لها أيضا مصالحها الأخرى التي لا بد من وضعها في الحسبان. ومع ذلك يظل الجانب الفكري للمعركة بالغ الأهمية ليس فقط لمنع عمليات التجنيد الجارية في الدول العربية وبقية العالم، وإنما أيضا لزعزعة المواقع التي كسبتها تنظيمات إرهابية سيطرت وتحكمت في دول وشعوب عربية. كيف يحدث هذا؟ تلك هي المسألة.

&&