إياد أبو شقرا

 إذا كان لي أن أتوقع شيئًا من العام 2017 فهو أن ما زُرع من «خلخلة» في الأنظمة الوطنية والإقليمية سيُحصد على المسرح الدولي.
لقد تضافرت صناديق الاقتراع، وموجات اللجوء والهجرة، والعمليات الإرهابية الفظيعة، لجعل 2016 عامًا مفصليًا في تاريخ العالم. ولعله من التواضع المفيد ألا نستغرق كثيرًا في محاولات تفسير أو تحليل ما حدث. فنحن، ربما من دون استثناء، أجبن من الإقرار بأن النفس البشرية أمّارة بالسوء وأن البشر ليسوا ملائكة، فمنهم الأناني والجاهل والعنصري والعدواني. والمرء من هؤلاء سريع في إطلاق الأحكام على الآخرين لكنه لا يحاسب نفسه، ولا يقبل بتحمل نتائج خياراته وتصرفاته.
ثم مَن قال إن الديمقراطية، من حيث هي نظام تمثيلي سياسي، منزّهة عن الشوائب، وقابلة للتطبيق بوصفات جاهزة ومعايير محدّدة في كل زمان ومكان؟ ولماذا علينا القبول بمعايير محدّدة معلّبة لنظام تمثيلي يُساء تعريفه وتطبيقه أكثر فأكثر في أرقى الديمقراطيات الغربية؟ ومَن سمع طوال 2016 الخطب السياسية، وقرأ بعض التعليقات والآراء في أهم الصحف والمجلات في أوروبا وأميركا، لا شك ساوره قلق بالغ من أن بعض مَن يحاضر بالديمقراطية لا يؤمن بها ما لم تخدم مصالحه الآنية. ومنطق الأمور يقول أن لا قيمة إطلاقًا للديمقراطية في غياب الوعي، وروح المسؤولية، وإدراك واجب المحاسبة.
أخيرًا، هل الرأسمالية الجامحة هي النظام الاقتصادي الذي بنى النهضة الصناعية العالمية ورعى التقدم التكنولوجي وكان المحرك الأساسي له؟ فإذا كانت كذلك، فكيف تقف اليوم قوى اليمين المحافظ على امتداد أوروبا وأميركا (وأستراليا ونيوزيلندا أيضًا) ضد ظاهرة الهجرة الاقتصادية التي هي نتاج للرأسمالية... هي بذرتها ومبرّرها ودليل نجاحها؟
اليوم يقف كبار رأسماليي السياسة وأحزابهم اليمينية ضد هجرة الوظائف (كحالة أميركا و«شعبوية» دونالد ترامب) والعمالة الوافدة الرخيصة (كحال قوى اليمين «الانعزالي» الأوروبي)، مع أن أسس الرأسمالية كما عرفناها هي: المبادرة الفردية والعصامية، والتكلفة، والتنافسية، وإسقاط الحواجز الجمركية، والتصدي للتدخّل الحكومي في فرض الضرائب و«الإجراءات الحمائية». هذه هي المبادئ التي قام عليها الفكر الرأسمالي، والتي خاض من أجل ترويجها حروبًا، منذ الحقبة الاستعمارية القديمة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. والمشكلة أن عالمنا اليوم يرفض العولمة إذا كانت تعني فتح أبواب الهجرة واللجوء أمام مَن لا يريدهم، لكنه معها إذا كانت تتيح لقواه الكبرى غزو الأسواق وفرض الحمايات الأجنبية على دول العالم... المعروف بـ«العالم الثالث»!
وهنا نصل إلى محطة كانت غاية في الأهمية خلال العام 2016 المودّع، هي ربط المهاجرين واللاجئين بالإرهاب، وبالأخص إذا كانوا من العالم الإسلامي.
في بريطانيا، ما كان المسلمون على رأس القضايا المطروحة في التصويت على الخروج من «الاتحاد الأوروبي» (البريكزيت)؛ إذ إن غالبية المسلمين في بريطانيا يتحدّرون من شبه القارة الهندية، ونسبة التطرّف الحركي عندهم قليلة نسبيًا، بل كان القلق الأساسي الدافع للخروج من أوروبا هو حجم العمالة الوافدة من دول أوروبا الشرقية. وفي بريطانيا، العمالة الأوروبية الشرقية عمالة رخيصة حمّلها قطاع واسع من المواطنين مسؤولية حرمانه من فرص عمل جيدة، ومنافسته على الخدمات والضمانات الاجتماعية المتوافرة في البلاد.
في مناطق أخرى من أوروبا، كان الهاجس «الإسلامي – الإرهابي» أكبر، لا سيما في فرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا. ومعلوم أن الغالبية المسلمة في الدول الثلاث الأولى تتحدر من أصول أفريقية، وبالأخص شمال أفريقيا، بعضها انزلق إلى الراديكالية بفعل جملة من عوامل التهميش والاعتراض والبطالة وغيرها. وشبّت جماعات من أجيالها الشابة في «غيتوهات» داخل المدن وضواحيها الفقيرة، ما جعلها فرائس سهلة للتطرّف والانغلاق الديني والتمرد على الثقافة الغربية التي همّشتها. ومن ثَم، دخلت هذه الجماعات في حلقة مُفرغة من الصراع مع محيطها، فكلما ازداد الاعتراض زاد التهميش، وكلما زاد التهميش زاد الاعتراض، وصولا إلى العنف المسلح بل الانتحاري.
هذه العلاقة الإشكالية بين الغرب والإسلام أخرجتها العقود الأخيرة إلى دائرة الضوء بصورة غير مسبوقة.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانحسار نفوذ الدولة العثمانية، رضخت معظم الدول العربية والإسلامية في الشرق الأوسط للنفوذ الغربي. لكن المواجهة اتخذت لفترة طابعًا قوميًا، لا سيما بعد تأسيس دولة إسرائيل على الصعيد العربي، انتهت عمليًا بنهاية «الناصرية» وتوقيع كامب ديفيد. حتى شاه إيران شدّد على الهوية «الإيرانية»، وكان مصطفى كمال «أتاتورك» من قبله «المعوَل» القومي الذي هدم دولة «الخلافة» العثمانية. غير أن المد القومي تراجع في العالمين العربي والإسلامي تقريبًا بالتوازي مع تسارع خطوات التقارب والتكامل الأوروبي، وكذلك التقارب والتكامل في أفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا.
بعد ذلك، أنهى انهيار الاتحاد السوفياتي صراع اليسار واليمين في الشرق الأوسط، وخرج نموذج لـ«الإسلام السياسي الطائفي المسلح» من طهران الخميني... وكان من الطبيعي أن يستثير التطرف الطائفي الشيعي (الفارسي، جوهرًا وأدبيات وتقاليد) رد فعل سنّيًا لا يقل راديكالية. وحقًا، استولدت الحالتان الأفغانية («المجاهدون»، ثم طالبان) والعراقية (الغزو الأميركي وتسليمه لإيران) «القاعدة» ثم «داعش»!
كل تعقيدات المنطقة اختصرتها «واشنطن باراك أوباما» خلال السنوات الأخيرة بمحاربة «داعش»، وتحت هذا الشعار «الرد فعلي» تجاهلت حقائق وحساسيات ومعضلات معقدة وخطيرة. واليوم بعدما فقدت زمام السيطرة المطلقة في الشرق الأوسط، بتنا نشهد علنًا المشاريع الإقليمية و«القيصرية» على جثث كيانات المنطقة.
الفوضى داخل تركيا، المحاصَرة سياسيًا، ستكون مؤشرَ خطر كبير عام 2017، وبخاصة، إذا مضت واشنطن قدمًا برعاية مخطط «كردستان الكبرى».
والفوضى التي تزرعها ميليشيات إيران الحاكمة في طهران، والمصمّمة على تدمير المنطقة العربية، لن تجد من يوقفها، ما لم تدرك القوى العالمية الكبرى – بالذات روسيا وأميركا – أنه قد يكون من الصعب لملمة تداعياتها.
وأخيرًا، هناك فوضى الانهيار العربي، تحت مطرقة طهران وسندان الليكود الإسرائيلي، وبمساعدة رهانات كردية قد تكون باهظة الكلفة. وهذه الفوضى ستكون على الأرجح الوصفة المثالية لإرهاب غاضب وحاقد لا يعترف بأي حدود..