ميسون الدخيل

قد يعتقد كثير منا، خاصة أصحاب التخصصات أو المثقفين، أننا وصلنا إلى درجة كافية من المعرفة والخبرة، تؤهلنا للإجابة عن كثير من الأسئلة، أو فلسفة أي معلومة تمر علينا حتى وإن كانت حديثة أو غريبة عن المخزون المعرفي الذي نمتلكه! وهنا بالتحديد نقع في فخ وهم المعرفة، لأننا ببساطة لا نفرق بين معلومات ومعرفة! يعز علينا أن نجيب بـ"لا أعرف"، أو "ليس لدي معرفة سابقة عن الموضوع"، أو حتى "لم أنتبه، لم أبحث لأتأكد"، كما أننا نرفض رفضا باتا أن نغير نظرتنا أو مفاهيمنا حتى ولو قدمت لنا الأدلة والشواهد! ولماذا؟ لأننا وبكل ثقة نتبع أدلة وشواهد من ندعمه ونؤمن به حتى وإن كنا أصلا لا نفقه شيئا بشواهد وأدلة من قدمها، لأنه بكل بساطة استخدم طرقا جاذبة للإقناع، إضافة إلى أن ما جاء به يتماشى مع ما نريد أن نسمعه أو نقرأه! ليس لدينا أي نية صادقة للبحث والتقصي، لأننا أصلا لا نؤمن بجدوى هذا البحث، ونصمم على موقفنا، ونقف بكل حزم ندافع عنه حتى تأتي الحقيقة وتصفعنا في وجوهنا، ولكن هل نتعظ ونعيد الحسابات؟ كلا! بل نبدأ بالبحث عن التبريرات التي تريحنا وتفسر تلك الحقيقة، وتعيد قولبتها لتظهر وكأنها دليل وشاهد على ما نريده أن يكون!
من يقدم فكرا إما نتجاهله أو نعارضه حتى نقطع أنفاسه، بينما يشدنا من يهاجمنا فننتفض وبكل شراسة نرد، بل إن بعضنا من يتخلى عن كل أخلاقيات الحوار والمبادئ والقيم التي ننادي بها، وينزل إلى مستوى إطلاق وصلات الردح والشتائم والقذف! لكن إن انتقل إلى معسكرنا نسامح وندعم، بل إننا نطلق سهامنا على أبناء جلدتنا ممن يريد أن ينبهنا ويذكرنا بالحذر والحيطة! طيبون نحن، نغفر وننسى بسهولة، خاصة من شتمنا، وجيش ضدنا القراء أو المشاهدين، وفجأة غير مساره، وبدأ بتأليف المعلقات في مدحنا، بل اتخذ دور المرشد، وبدأ بتحذيرنا ممن نؤمن بأنه العدو أو المنافس أو الآخر، ويستمر في اللعب على هذا الوتر بكل مهنية وخبث، فماذا نفعل؟ نصفق ونتبعه وندافع عنه دفاع المستميت، بل نفرد له صفحاتنا ليكتب فيها، ولم لا؟ فلقد رأى النور والمسامح كريم! والمطلوب من البقية أن تنسى وتتجاهل كل ما سبق، وينتظر منا أن نصفي النية، ومع من؟ مع من تخلى فجأة دون أي تمهيد أو تبرير عن مبادئ أعلنها ودافع عنها بكل شراسة! كيف ولماذا ومتى؟ لا ندري! ما خلفية هذا التحول؟ لا ندري! هل من الممكن أن يتغير ثانية بنفس السرعة التي تغير فيها؟ لا ندري! وهل "لا ندري" ستتحول إلى واقع يصدمنا ويصفعنا يوما؟ أسئلة تضعنا ضد التيار، ونصبح نحن من يُطالب بصفعِه!
لقد خلق لدينا ما يسمى بعصر المعلومات أناسا يشعرون، بل يعتقدون أنهم يعرفون أكثر من أي جيل مضى باعتمادنا على الإنترنت، بينما في الحقيقة هم يجهلون عن الآخر، بل العالم من حولهم أكثر من أي وقت مضى! مرة أخرى أكرر المعلومات ليست معرفة، إن لم يتم تخزينها في العقل البشري والتعامل معها من خلال مهارات التفكير! باعتمادنا على الإنترنت أصبحنا لا نخزن المعلومات لمعرفتنا بأنها موجودة وتحت أمرنا متى ما طلبناها، تماما كما فعلت أجهزة الاتصال الهاتفي بذاكرتنا بالنسبة للأرقام، لم نعد نحفظ، بل نبحث في الجهاز عن الأسماء المخزنة بداخله، ونضغط المفاتيح، وننتظر الرد! تواصل بالصوت والصورة أخذ مكان تواصل اللحم والدم والروح، والذاكرة لا تخزن العابر كما تسجل الواقع المحسوس الملموس! وما الإنسان سوى ذاكرة تربطه بأهله بناسه بأرضه بتاريخه؟! على ماذا بات يرتكز؟ على ذاكرة افتراضية أو مخزنة على أجهزة، قد تضيع عند أول غلطة أو خلل تكنولوجي؟! أصبحنا نعتقد أننا نعرف الكثير من وعن البشر على شبكات التواصل الاجتماعي، بينما الواقع يشير إلى أن ما لدينا ليس سوى معلومات افتراضية، قد تكون حقيقة وقد تكون خيالا، بضغطة زر نضيف، وبضغطة زر نلغي!
صدقنا أن هذا العالم الافتراضي ملك لنا، يأتينا بما نريد، ولنضع ألف خط تحت "ما نريد"! لقد أصبنا بـ"وهم المعرفة"، ولم نعد نستطيع أن نفرق بين ما خزن في عقولنا وما هو خارجها، ما نعرفه وما نجهله، فنؤمن بأننا أذكياء ملوك المعرفة، بينما ما تخزن فقط هو مجموعة من المعلومات المتقطعة، قد نعرف كيف نعود إليها حين نحتاجها، وقد لا نعرف، المشكلة ليست هنا، المشكلة كيف يستطيع العقل أن يعمل بمعلومات غير مخزنة في داخله، كيف يقارن ويحلل ويستنتج، بل كيف يحكم أو يصدر قرارا حكيما أو على الأقل بموضوعية؟! ثم إننا حتى وإن عدنا إلى تلك المعلومات المتقطعة فهي عادة ما تنتمي إلى مدرسة فكرية أو رأي معين نتبعه ونؤيده، ونادرا ما نبحث عن الرأي الآخر حتى نصغي أو نرى ما لديه! التحدي هو أن نفتح العقول ونترك المجال مفتوحا أمام تفسيرات جديدة لبيانات وشواهد وأدلة قدمت على أنها حقائق، ولكننا نتحاشى التحدي إما غرورا قائما على وهم أو نتيجة شعور بأنه سيؤدي حسب اعتقادنا إلى طريق غير الذي عهدنا ودعمنا! ولقد قالها يوما أحد المفكرين "إن أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل، وإنما وهم المعرفة".