عبد المنعم سعيد 

 ما اعتدنا عليه في كل إدارة أميركية سابقة، أن رئيسها أو بعضًا من أعضائها، يدلون بدلوهم بعد مغادرتهم السلطة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي في عمومه، بطريقة أكثر عدالة.
يأتي ذلك متأخرًا، وكثيرًا ما يكون في معرض الشكوى من يد إسرائيل الثقيلة في التعامل مع القادة الأميركيين، وأحيانًا الفظاظة الشخصية لرئيس وزراء إسرائيل سواء كان شامير أو شارون. ولكن في العادة يكون الوقت قد فات، ولن تغني أو تنفع مذكرات شخصية أو مقابلات صحافية، في ساحة بناء سلام عادل وشامل في منطقة عاشت في خضم صراعات كثيرة. ولكن ما جرى في أيام إدارة أوباما الأخيرة كان عجبًا، حينما شمرت عن أذرعها وقامت بمجموعة من الخطوات التي لم يكن ممكنًا تخيلها في السابق، وقبل تولي الرئيس المنتخب دونالد ترامب ولايته بأيام. ولعل أهمها فيما يخص منطقتنا أمران: الامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2334 الخاص بإدانة عمليات الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقيام جون كيري وزير الخارجية الأميركي بإلقاء خطاب شامل يخص موضوع الاستيطان من ناحية، ولكنه يأخذه إلى نقطة أبعد، وهي طرح مجموعة من المبادئ الأساسية لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
وأيًا ما كان من هذا الأمر أو ذاك من تفاصيل سوف نتعرض لبعضها، فإنهما ليس فيهما جديد كل الجدة، ففيهما امتداد لعدد من القرارات التي اتخذها مجلس الأمن من قبل، وكان فيها الموقف الأميركي بالامتناع عن التصويت أيضًا كما حدث أثناء إدارة رونالد ريغان، وكذلك ما ورد فيما عرف بـ«معايير كلينتون» التي طرحها الرئيس الأميركي السابق في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2000 على الفلسطينيين والإسرائيليين، ثم أعاد صياغتها وطرحها قبل مغادرته البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) 2001. ولكن رغم ذلك، فإن هناك بعضًا من الجديد ليس في الخطوط العريضة، وإنما في التفاصيل المهمة التي عادة وكما يقال تكمن فيها الشياطين، وببساطة فإن ما جرى في الصراع العربي - الإسرائيلي من دماء، وما تم استنزافه من أحبار في كتابة محاضر المفاوضات، والمباحثات، والجلسات السرية والعلنية والمسارات الدبلوماسية الأولى والثانية (وفي بعض الأحيان قيل المسار واحد ونصف!) كانت في حاجة لمن يهضمها كلها في وثيقة إضافية لما جرى من وثائق أخرى ربما كان أكثرها أهمية «مبادرة السلام العربية» التي قدمت أهم «صفقة» سياسية واستراتيجية لإسرائيل لكي تتم مبادلة الأرض والسلام. التفاصيل أيضًا أضافت أبعادًا مهمة لقضية «الأمن» لكي تتم تغطية أبعاد أضيق بين الفلسطينيين والإسرائيليين من خلال مشاركات مصرية وأردنية، ومن ناحية أخرى أضافت أبعادًا أوسع عندما تمت صياغة مبادئ التسوية في إطار من الأمن الإقليمي في المنطقة، استنادًا إلى وجود تهديدات إقليمية تلح على جميع الأطراف، سواء جاءت من الإرهاب أو من إيران أو من جهات أخرى.
ولكن في كل الأحوال بما فيه قديمه وجديده، فإن «وثيقة كيري» وضعت الأمور كلها في سياق الدفاع عن إسرائيل والحفاظ على أمنها، طارحًا فيها ما يطرحه الوسط واليسار الإسرائيلي أن الأوضاع الراهنة تضع واقعيًا - بسبب الاستيطان وغيره من الإجراءات الإسرائيلية - نهاية لحل الدولتين الذي طرح منذ بداية الصراع في قرار الأمم المتحدة 181 الذي قضى بتقسيم فلسطين بين دولتين: واحدة لليهود والأخرى للعرب. فما تتجه إليه حركة الواقع هو أن ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط سوف يكون هناك كيان سياسي واحد، إما أنه سوف يقوم على قهر اليهود للعرب ومن ثم المقاومة، أو تقبل إسرائيل بفكرة المساواة التي تعني قبل وقت طويل أن تنتهي الدولة اليهودية بسبب التفوق الديموغرافي العربي. فما بين النهر والبحر يوجد حاليًا 12 مليونًا من البشر، نصفهم من الإسرائيليين، ونصفهم الآخر من الفلسطينيين. والعرض هكذا ليس جديدًا حتى داخل إسرائيل نفسها، حيث يوجد عقلاء يعتقدون أن بقاء الأمور على ما هي عليه هو أقصر الطرق لمواجهة إسرائيل خيارًا صعبًا ما بين يهوديتها وما يقال عن ديمقراطيتها.
رد الفعل العربي لتطورات اللحظة الأخيرة أخذ بالإضافة إلى الدهشة نوعًا من الإذعان لفكرة أنه طالما لا يوجد جديد فيما قيل، وأنه من الجائز أن ذلك جزء من صراع ديمقراطي جمهوري داخلي في الولايات المتحدة، وأن إدارة أوباما المغادرة تحاول أن تجعل بقدر الإمكان الحياة صعبة لإدارة ترامب، سواء في علاقاتها بالشرق الأوسط أو علاقاتها بروسيا (فرض عقوبات وطرد دبلوماسيين وإشهار تآمر روسيا على الانتخابات الأميركية للتأثير في شرعية ترامب). ولكن، وأيًا كانت الأسباب، فإن هناك فيما جرى بضعة عناصر قد تكون مفيدة. ويستحسن عدم الانخراط في المنهج الذي سوف يتخذه ترامب تجاه منطقة الشرق الأوسط والذي يتضمن انحيازًا مطلقًا لإسرائيل وصل إلى تقديم ترامب تبرعات للمستوطنات الإسرائيلية. منهج ترامب سوف يقوم على المنهج ذاته الذي قام به نتنياهو وأمثاله من قبل، وهو الحديث فقط عن مفاوضات مباشرة وبعد ذلك لا شيء، فلا مرجعية، ولا جدول أعمال متوازنًا بين المطالبات الإسرائيلية وتلك العربية.
رد الفعل العربي عليه أولاً أن يستوعب جيدًا مضمون قرار مجلس الأمن من ناحية، وخطاب كيري الطويل والممتلئ بالتفاصيل جيدًا. وثانيًا أن يوقع هذه الحقيقة الخاصة بالصراع العربي - الإسرائيلي في الواقع الإقليمي كله الذي يضيف صراعات وتناقضات أخرى لا يمكن تجاهلها وفيها من المخاطر ما لا يمكن استبعاده. وثالثًا أن تسوية صراعات أخرى في المنطقة، لا يمكنها أن تستبعد الصراع العربي - الإسرائيلي وحده من التسويات الإقليمية، لكي يُقْلِق حال المنطقة كلها كما كان دائمًا، وعلى الأرجح يفسد بطريقة أو بأخرى تسويات الأزمات الدامية الأخرى التي تجاوزت الحروب العربية - الإسرائيلية في عنفها وقسوتها. ورابعًا أن الأمر كله بتفاصيله وكلياته، بقدر ما يدور حول العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية، فإنه يدور حول علاقات الدول العربية بالدولة العبرية، ومن ثم فإن المفاوضات لا تكون فقط بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وإنما أيضًا بين الدول العربية المعنية وإسرائيل. الأولى تكون حول تطبيق معايير كلينتون ومبادئ كيري، والثانية تكون حول تنفيذ مبادرة السلام العربية. هذا التقسيم ليس جديدًا، وإنما جرى بعض منه في إطار مؤتمر مدريد الذي قسم المفاوضات لكي تكون بين الأطراف المباشرة، والمفاوضات متعددة الأطراف. الأولى كانت حول القضايا الناجمة عن احتلال إسرائيل للأراضي العربية، والثانية كانت عن قضايا المستقبل في علاقات أهل المنطقة. وبالطبع فإن هناك ما هو أكثر لكي نحول خطوة أميركية لا بأس بها إلى واقع دون انتظار لما سوف يسفر عنه التنافس الداخلي الأميركي. ولكن الخلاصة أن منطق هز الأكتاف إزاء قرار مجلس الأمن 2334 ومبادرة كيري ليس أكثر التوجهات حكمة في منطقة نزفت كثيرًا من الدماء طوال أكثر من ستة عقود.