بكر عويضة

سنة 1971 التقى عدد من الأطباء على فكرة نبيلة أعطوها تسمية «أطباء بلا حدود» كي تكون سِمةُ مهمتهم الإنسانية متجاوزةً لكل ما يفصل بين البشر، ليس فقط من حواجز أرضية أو بحرية، أو مطارات، بل أيضًا تتجاوز الجنسيات، والأعراق، والمعتقدات، والأجناس، والثقافات، فتمتد أياديهم البيضاء لكل الناس، تمدّ بالعلاج كل محتاج بمختلف القارات. ثم إن شعاع نُبل الفكرة تمدد فاتسع حضور المجموعة، وصارت منظمة راحت تكبُر حتى صار لها مكاتب في تسعة عشر بلدًا، وطفقت تدعم مشاريع ذات صلة بدورها الإنساني في خمس وستين دولة، وفق ما تورده موسوعة «ويكيبيديا» غير الربحية كذلك، مضيفةً أن «أطباء بلا حدود» قدمت خلال عام 2008 فقط «ما يزيد على ثمانية ملايين استشارة طبية خارجية، وعالجت أكثر من 312 ألف مريض في أقسامها الداخلية، وتولت فرق المنظمة رعاية 230 ألف مصاب بالإيدز، وتطعيم مليونين وسبعمائة ألف شخص ضد الحصبة، أو التهاب السحايا، فضلاً عن معالجة مليون ومائتي ألف مصاب بالملاريا، بالإضافة إلى مليون وأربعمائة ألف طفل كانوا يعانون سوء تغذية حادًا، كما أجرت مائة ألف ولادة، بما في ذلك ولادات قيصرية، وأعطت 130 ألف استشارة فردية معنية بالصحة العقلية والنفسية، بالإضافة إلى إجراء خمسين ألف عملية جراحية كبرى». أليس في كل ذلك، أو حتى بعضه، ما ينفع الناس؟ بلى.

بالمقابل، هناك الذي يُصّر على غطرسة تضر شعبه أولاً، ثم إنها تصيب بالضرر أقوامًا غيرهم، فضلاً عن أنها تعبر المحيطات، وليست تتجاوز فقط القارات، بل أيضًا حدود اللياقات المعتادة في التعامل بين الدول، ولو جاز تخيّل فَتح باب ترشيح لما يمكن تسميته «جائزة الغطرسة بلا حدود» لكان السيد بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، أولى بها من كثيرين غيره شاركوه عنجهية التعالي، وصم الآذان حتى عن نصح الأقربين، أولئك هم سادة العجرفة، منهم مَن رحل إلى غير رجعة، وبينهم من ينتظر.

يستطيع نتنياهو، ومن يؤيد موقفه، أن يقولوا ما شاء لهم قوله إزاء الموقف الأميركي بشأن المستوطنات، لكن آخر ما يمكنهم افتراؤه، هو أن أميركا تعادي إسرائيل، سواء كان رئيسها (الراحل) ليندون جونسون، أو الذاهب بعد أيام باراك أوباما، أو الآتي بعده دونالد ترامب. وسواء كان مايسترو سياسة واشنطن الخارجية ويليام روجرز، أو جون كيري، ومن قبله جيمس بيكر ومادلين أولبرايت، ليس بوسع ساسة تل أبيب الزعم أن أحدًا من هؤلاء أيدهم في جنوح مواقفهم من بناء مستوطنات في أرض محتلة، ناهيك بالتوسع في بنائها. ما الذي حصل، إذن، كي يفقد نتنياهو وشركاؤه أعصابهم إلى حد قارب الجنون بعد خطاب كيري الأربعاء الماضي؟! هل لأن كيري، بعد نوم طال أمده، استفاق فاكتشف أن حكومة نتنياهو هي الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل؟ وأين الخطأ في ذلك؟ الحق أن الخطأ الذي يقترب من حد الخطيئة هو في تدليل فاق كل الحدود أدمنته واشنطن عند التعامل مع تمرد ساسة إسرائيل، منذ نشأتها وحتى احتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة لسيناء والجولان، على كل قرارات مجلس الأمن التي نصت بوضوح على وجوب العودة إلى حدود الخامس من يونيو (حزيران) 1967. مع ذلك، ورغم أن العالم أخذ يعتاد ما استمرأه ساسة تل أبيب، استُفِزت أعصاب نتنياهو إذ سمع فجأة من يقول ما معناه: إن دلو عناد إسرائيل، الذي اعتاد ساستها إدلاءه في بئر دلال تغاضي أميركا بشأن الاستمرار في بناء المستوطنات، يجب أن يتوقف هنا... صورة أستعيرها من عبارة كان الرئيس الراحل ترومان يضعها على مكتبه (THE BUCK STOPS HERE)، فإذا بردّ الفعل غطرسة تجاوزت كل الحدود، ليس فقط تجاه أوباما وكيري، بل كذلك إزاء هيئة الأمم المتحدة، التي منها استمد مؤسسو إسرائيل شرعيتها كدولة.

بالطبع، ما لم يقع طارئ، الأرجح أن الرئيس ترامب سوف يقلب كل شيء رأسًا على عقب. ليس مهمًا. بل المهم أن يظهر رجل رشيد يقول للإسرائيليين ما خلاصته أن تطرف ساستهم، من أمثال نتنياهو، ليس في صالحهم على المدى البعيد. ومن يُرِد برهانًا من حاضر زماننا، فليقرأ ما كتبته راشيل ريفيز ونشرته «إندبندنت»، الاثنين الماضي، عن موقع أميركي متطرف يدعو إلى «مسيرة مسلحة ضد اليهود في ولاية مونتانا». ليس من عاقل، أيًا كان الجنس أو المُعتقد، يمكن أن يقبل دعوة كهذه، بل هي مرفوضة بكل المقاييس. إنما، ألم يحن وقت أن يسود العقل في إسرائيل، ولمصلحة الإسرائيليين أنفسهم، بدل ترك الحبل بلا قيود لغطرسة بلا حدود؟