سميرة المسالمة

يشكل «إعلان أنقرة» عن اتفاق وقف النار بين النظام والمعارضة، بضمانة كل من روسيا وتركيا، مرحلة جديدة في تاريخ الصراع السوري، وفي مسار الثورة ضد نظام بشار الأسد. 

لا نقول ذلك فقط لأن ثمة شكوكاً أثيرت حول اختلاف نص الوثائق الموقّعة بين الطرفين، وليس لأن الاتفاق كان برعاية تركية وروسية بعيداً من أي دور لإيران، الضلع الثالث في «إعلان موسكو»، ولا لأن السوريين ينتظرون الاتفاق كمقدمة لإجراءات بناء الثقة التي يفترض أن تمضي قدماً نحو الحل السياسي للصراع الدائر منذ ستة أعوام، بل لأنه في حقيقته يشكل بداية جديدة لتموضع فصائل المعارضة العسكرية التي كان النظام وحلفاؤه يصفونها بالإرهابية، في الواجهة من جديد، بل ويتم إسباغ الشرعية عليها كممثلة للمعارضة، باتفاقهم معها على آليات تشكيل الوفد المفاوض إلى المؤتمر المزمع عقده في آستانة، أواخر هذا الشهر، والذي ربما تُعتمد نتائجه خطوة على طريق الحل السياسي الشامل، بحسب وثيقة المعارضة المعلنة، وكحل شامل للأزمة السورية بحسب وثيقة النظام.

قد تغدو هذه الجزئية عارضة جداً لكنها تعبر بطريقة ما عن أن الأجسام السياسية القائمة أصبحت تابعة في قرارها للكيانات الفصائلية العسكرية الموقعة على الاتفاق المذكور، والتي ستختار ما يتوافق مع رؤيتها للحل المنشود بعيداً من الرؤية السياسية للمعارضة، سواء تلك المعلنة في لندن في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي، أو أي تعديلات كان يجري العمل عليها بين مكونات «الهيئة العليا للمفاوضات»، إذ لم تقدم الدول الراعية لعمل وفد المعارضة ما يوحي بالاستناد إلى هذه الرؤية، لدى إعداد «خريطة طريق» لحل الأزمة السياسية الداخلية في سورية، كما تصفها وثيقة النظام المودعة في الأمم المتحدة.

وفي الوقت الذي فهم المتفاوضون من جانب المعارضة أن الذهاب إلى آستانة قد يفضي إلى إخلاء الساحة من وفود «المعارضة» الأخرى، وإغلاق التفاوض على وفدين فقط، هما وفد المعارضة الذي سيشكَّل -بناء على رغبة الفصائل العسكرية- من «الهيئة العليا للمفاوضات» وممثلي الفصائل، في مقابل وفد نظام الأسد، فإن أي مراجعة لقرار مجلس الأمن رقم 2254 ستضعنا أمام الإشكالات ذاتها في ما يتعلق بوفد أو وفود المعارضة. 

وذلك يعني أننا سنجد أنفسنا في مواجهة حقيقة مفادها أن روسيا التي أضحت الآن على قناعة بأن مجريات اتفاق وقف النار وما رافقه من مفاوضات مع ممثلي الفصائل، أثمرت اتفاقاً يصفه كل طرف بأنه يحقق مطالبه الخاصة، يمكن أن تستثمر أيضاً تحت الوصاية والضمانة ذاتيهما، لإنجاز اتفاق سياسي شامل يحقق القدر ذاته من الرضا من طرفي المعارضة والنظام.

ولعل من المفيد عقد الآمال على أن قناعة الجانب الروسي بضرورة الحل السياسي سريعاً، قبل الدخول في مرحلة تسلم الرئيس الأميركي دونالد ترامب صلاحياته التنفيذية، تجعل الخطوات العملية متقاربة، حيث حددت الوثائق 16 الشهر الجاري موعداً لالتزام المعارضة بتشكيل وفد للدخول في مفاوضات تسوية سياسية، على أن يبدأ العمل المشترك مع وفد النظام اعتباراً من 23 الشهر، أي وفق خريطة طريق منتظمة ومنظمة، بغض النظر عن تعبير «عمل مشترك» بدل «عملية تفاوض» الوارد في الوثيقة الموقعة. 

لكن على رغم ذلك، وليس من قبيل التعطيل، تبقى تساؤلات تطرح ذاتها. مثلاً، هل نحن فعلياً على عتبة تفاوض بين «طرفين»؟ وإن كان ذلك سيحدث حقيقة فما هو الدور الذي قامت به المعارضات الأخرى؟ وهل موسكو على أعتاب عملية تخلّ عما سمي بمعارضة موسكو وحميميم؟ أم أننا أمام عملية استدراج تبدأ بالعمل المشترك وتنتهي بحالة توأمة بين كل من ستسعى موسكو وإيران إلى إدراج أسمائهم لاحقاً؟

بيد أن شبهة «التخلي» لم تبدأ من موسكو فحسب إذ تقدمت الفصائل العسكرية على الكيانات السياسية، حتى في ما يتعلق بتشكيل الوفد السياسي، ناهيك عن عملية تفاوض طويلة جرت بعيداً من الائتلاف المقيم في إسطنبول، وعن «الهيئة العليا» التي أصرت على التأكيد، حتى قبل يوم واحد من إعلان الشكل النهائي للاتفاق على وقف إطلاق النار بأنها: «لا علم لها عن مفاوضات في أنقرة»! وإذا كانت موسكو تتبع سياسة الخطوة خطوة في شرعنة ما تريده، ومنه انتزاع اعتراف الفصائل العسكرية بمعارضة حميميم وموسكو، وإلزامها الجلوس على الجهة نفسها من طاولة المفاوضات مقابل النظام، وإحالة الأمر إلى مجرد حوار يفضي إلى حكومة مشتركة تعوِّم من خلالها رأس النظام، فإنها تتوخى من ذلك تحقيق ثلاثة أهداف:

أولاً: مرجعية قانونية جديدة للقضية السورية هي ما يتمخض عنه مؤتمر آستانة بدلاً من بيان جنيف1 (2012).
ثانياً: تشكيل وفد تفاوضي جديد بتراتبية جديدة، من تجمع للشخصيات المدعوة للمؤتمر المذكور، سواء من جانب الفصائل مع الهيئة العليا للمفاوضات أو من شخصيات مدعوة تحت مسميات مختلفة.
ثالثاً: نزع شرعية الكيانات والفصائل التي رفضت التفاوض تحت سقف الاتفاق الجديد.

ربما يكون مؤتمر آستانة إحدى ثمار عجز المجتمع الدولي، قبل المعارضة، عن إيجاد آلية مجدية لحماية المدنيين السوريين، وذلك بسبب تخلّي الإدارة الأميركية عن مهماتها كدولة عظمى وإفساحها المجال أمام روسيا لتولي هذه المسألة بالوكالة، تحت ذريعة أن ما يحدث في المنطقة لا يؤثر على أمنها وأمن أصدقائها، أو بسبب رغبة الولايات المتحدة في مزيد من توريط روسيا في مستنقع المجازر التي يرتكبها النظام السوري. 

وعليه، ففي كلتا الحالتين، يمكن اعتبار ما يجري بمثابة نتاج لتغير في موازين القوى على الأرض نتيجة معركة حلب الدامية، والمقتلة الكبرى التي حدثت خلالها، والأسرار التي ستتكشف تباعاً حولها، وهي وإن اعتبرناها بمثابة هزيمة للفصائل المسلحة التي خاضتها، وفقاً لعقليتها وطرق عملها، إلا أنها في الوقت ذاته لا يمكن احتسابها بمثابة انتصار للنظام، بل هي هزيمة له أيضاً، إذ أدت إلى خروجه كلياً من معادلة الحل السوري الذي لن يتواجد داخلها إلا بمقدار ما تسمح به مصالح كل من روسيا وإيران من جهة، وتحالفاتهما الإقليمية من جهة أخرى.

ومع كل ما تقدم، يبقى الطريق إلى مؤتمر آستانة مزروعاً بألغام قد تتفجر بين حين وآخر، ليس لأنه لا يحقق مطالب النظام فقط، بل لأن النظام يدرك تماما أن أي حل سياسي يعني نهاية حكم الوراثة الأبدي. فهل يمضي النظام في خروقاته للاتفاق للحفاظ على مسافة أمان عن أي حل سياسي شامل؟ أم آن الأوان لتكتشف روسيا حلفاء جدداً لها؟


* كاتبة وإعلامية سورية