رستم محمود

ليس لعاقلٍ أن يتخيل أن إيران و «حزب الله»، ومعهما العشرات من الميليشيات الطائفية الدينية المتزمتة، ستترك «عوالم الاجتماع» السوري من دون تأثير عميق فيها، وبالذات على الطائفة العلوية السورية، التي تراها تلك القوى في قرارتها كطائفة رديفة للطائفة الشيعية الأثني عشرية. 

ليس فقط لأن هذه القوى الشيعية ومن خلفها مرجعيتها الدينية المتزمتة ترى في الطائفة العلوية ما كانت تراه في الطائفة الزيدية اليمنية، حيث الطائفتان، إضافة إلى عشرات الطوائف الإسلامية الأخرى، تتبدى كأنها «شذّت» عن «الطائفة الشيعيّة» المركزية، بل أيضاً لأن هذا السلوك هو جوهر إيمان الايديولوجية الأمنية الخارجية الإيرانية، التي ترى في الولاء الكامل للجماعات غير الإيرانية الموالية لنظامها الضمانة الوحيدة لاستمرارية وصلابة العصبية التي يقودها ذاك النظام.

فعلت إيران ذلك حيثما استطاعت، وعبر خططٍ استراتيجية عميقة وبعيدة المدى، فغيرت في البُنى التقليدية للمُجتمعات التي سيطرت عليها، وألبستها لبوساً جديداً.

يروي روائي لبناني عن بيئته القروية في الجنوب اللبناني، كيف أن «حزب الله» غيّر كُل شيء فيها، فيقول إن الناس هناك نسوا الكثير من معطياتهم التقليدية والمألوفة، وباتوا مصبوبين بقالب سلوكي وخِطابي واحد. لم يعُد ثمة مجتمع، بل رجل واحد بطبعات كثيرة، وهو الشخص المثال كما تريده إيديولوجيا النظام الإيراني، الشخص المُحافظ المُلتزم الطائفي المُتجهم العسكري الذكوري.

الأمر ذاته تحاول الهيمنة الإيرانية أن تُطبقه في اليمن، فالكثيرون من الأصدقاء «الأجانب» المُهتمين باليمن، لم يكونوا يصدقون ما أصاب مجتمع جبال صعدة في السنوات الأخيرة، لجهة حجم الانجراف نحو العنف والعصبوية، والأهم هو مدى انفصامهم النفسي والاجتماعي والثقافي عن كل ما يحيط بهم، مما هو صميمي في المجتمع اليمني نفسه. وهي كلها كانت عوامل تأسيسية لكي يغدو المجتمع مجتمعاً مثالاً لخوض حرب أهلية مريرة.

بشفافية تامة، فإن «المجتمع العلوي» السوري سيدفع أثماناً لن تقل عن ذلك. فالطبقة الوسطى والعليا التي تبلورت في هذا المُجتمع لعشرات السنوات ستنهار تماماً لمصلحة الطبقة المُسلحة والمؤدلجة والفقيرة والقروية، حيث ستفرض الأخيرة خياراتها ورؤيتها الثقافية والاجتماعية على الأولى.

لكن حتى هذه الطبقة العسكرية العلوية لن يُسمح لها بأن تبقى كما كانت تقليدياً، أي مُجرد أفرادٍ يمتهنون العمل العسكري والاستخباراتي، بل سيخضعون لكل الواجبات الايديولوجية والخطابية التي تحول عساكر الجيوش النظامية إلى مقاتلي ميليشيات طائفية، وضمن ذلك سيفقد كامل المجتمع العلوي السوري ميزاته وخواصه الثقافية والاجتماعية المدنية بالتقادم.

إذا كان ثمة وهمٌ بأن التوازن بين النفوذين الإيراني والروسي قد يوفر على المجتمع العلوي هذا «الانجراف»، فإنه يجب التذكير بأن السيطرة الروسية عسكرية فقط ومعزولة عن المجتمع وحتى عن المقاتلين السوريين، وهي لا تستطيع مجاراة السياسة الإيرانية في هذا الاتجاه، حيث تخطط عادة لعشرات السنوات من تغيير بنية المُجتمعات التي تُسيطر عليها.

وعلى مستوى رديف، فإن «السُنّة السوريين» الموالين للنظام، والذين يظنون أنهم محظوظون لأنهم بقوا إلى جانب الأقوى الذي انتصر أخيراً في الحرب السورية، سيكونون بالمعنى الموضوعي أكبر الخاسرين. لقد فقدوا ذلك التوازن السوري التقليدي بينهم وبين ذوي السلطة الحقيقيين في البِلاد، بحيث بات ينتظرهم المزيد من الخنوع وفقدان الاعتبار، أما الحرمان الذي كان يطاولهم في المؤسسات العسكرية والأمنية، فسيمتد ليطاول كل المؤسسات الأخرى، وأما التغير الديموغرافي الذي عرفته البِلاد، فقد يغري النظام بتغيير تركيبة الدولة السورية، التي كانت في مؤسساتها التعليمية والقضائية والرمزية «دولة سُنية». أخيراً، من المؤكد أن الخسائر الأخرى التي يمكن أن يدفع أثمانها المنُتصرون السوريون، كانهيار البُنية التحتية تماماً، وتمزق المُجتمع السوري ودفعه ملايين الضحايا، ليست من الأمور المفكّر بها، لأنها تقع خارج تفكير هؤلاء المنتصرين تماماً، وهم ربما ما كانوا لينتصروا لو لم تكن هذه المسائل خارج تفكيرهم ومسؤوليتهم.


* كاتب سوري